مابين جبل عامل وسوريا (8/10)

ومن الغريب أنه لا يوجد في طرابلس جمعية على نحو جمعية المقاصد الخيرية في بيروت وصيداء فهي مقصرة من هذه الجهة. وبها عدة جوامع ومنها الجامع الكبير وهو فسيح جداً إلا أن الجامع الكبير بصيداء اتقن منه وهي مشهورة في علمائها وأدبائها من قديم وحديث. وبها عدة صحف ومطابع وهي جريدة صدى الشعب لصاحبها الأمير أسعد الأيوبي من نسل صلاح الدين وهو معروف بوطنيته وقد حلت هذه الجريدة محل جريدة طرابلس التي كان يصدرها المرحوم محمد كامل بك البحيري. ولها مطبعة الحضارة وجريدة الحوادث ولها مطبعة أيضاً ومجلة المباحث التي يصدرها جرجي أفندي يني. وبها المكتبة الرفاعية التي تضم كثيراً من الكتب المنوعة. وعلى التل قهوة بديعة المناظر تشرف على البساتين والبحر ويجتمع هناك الطرابلسيون عصر كل يوم. وماءٍ طرابلس كماء وصيداء كثير الأكدار والأقذار جرّ إليها بقساطل من نهر أبي علي وهم ساعون بجلب ماء صالح للشرب.

أول عمل وطني سوري

ويصل طرابلس بالمينا حافلة (ترامواي) تسير على الخيل وهو أول عمل وطني قام في سورية وما زال سائراً بنجاح وأرباح.

والمينا بلدة كبيرة واقعة على شاطئ البحر حسنة المنظر وبها معظم التجار المهمين. ولبلدية طرابلس عناية كبيرة بإصلاح البلدة لا سيما الشوارع فإنها جادّة في رصفها بالإسفلت لكن بلدية المينا مهملة جداً. ونظراً لكثرة الزيتون بطرابلس وحواليها يصنع بها الصابون الجميل ولها منه مورد عظيم جداً وبها عدة مصابن.

وطرابلس إحدى المدينتين الممتازتين ولها حاكم يعينه المفوض السّامي وحاكمها اليوم عبد الحليم بك الحجار وهو من إقليم الخروب شاب ذكي متعلم في مقتبل العمر وعدد نفوسها 36 ألفاً جلهم من المسلمين السُّنَّة.

وفي باب التبانة قسم قليل من العلويين والظاهر أن باب التبانة مقر الشيعة من القديم لأن في المسائل التي أجاب عنها السيد المرتضى المسائل التبانية وقد كانت في بعض القرون مدينة جل سكانها شيعيون ومنهم صاحب التترية المشهورة. ومن غريب ما رأيناه في طرابلس إعراضهم عن مساعدة المجلات العلمية (لا سيما إذا كانت شيعية) فإن أحدهم قد يولم لك وليمة تحتاج لأكثر من قيمة اشتراك المجلة مع أنك تفضل الاشتراك على الطعام (وللناس فيما يعشقون مذاهب). ولطرابلس مورد لا يستهان به من الليمون لكنهم لا يعتنون في غرس الأنكدونيا مثل الصيداويين. وبين الصيداويين والطرابلسيين تشابه في الأخلاق والعادات. وأهل طرابلس يعتقدون كثيراً بكرامات الأولياء. ومع اتصال طرابلس بحمص بسكة حديدية واتصالها في بيروت والعلويين بطرق معبدة تسير عليها السيارات فتجارتها متأخرة والحالة الاقتصادية بها لا تسر بل تسيء. ومن طرابلس المرحوم الشيخ حسين الجسر صاحب الرسالة الحميدية وولده الشيخ محمد الجسر ناظر المعارف اليوم في لبنان وعبد الحميد أفندي الرافعي الشاعر المشهور والشيخ عبد القادر المغربي عضو المجمع العلمي وغيرهم من العلماء والأدباء.

البدّاوي

وشمالي طرابلس مكان لطيف يدعى البداوي فيه بركة ماء كبيرة ذات مياه صافية وهي مملوءة من السمك الأسود من صغير وكبير ولا يصطاد هذا السمك الطرابلسيون لأنهم يعتبرونه مقدساً ومن اصطاده يصاب بآفة لذلك تراه آمناً مطمئناً لا يستوحش من الناس لكن لما جاء العسكر الإنكليزي اصطادوا منه ولم يكفوا عنه حتى شكاهم الطرابلسيون لقائدهم فمنعهم لكنهم لم يصابوا بأذى من أكله.

قمنا من طرابلس في سيارة خاصة نحن وبدوي الجبل ضحى الأحد (8 صفر سنة 1343) قاصدين بلاد العلويين وبعد مدة يسيرة وصلنا إلى النهر الكبير الفاصل بين لبنان وحكومة العلويين وكان الطريق كله سهول فسيحة وقد مررنا بقرية أهلها من السُّنِّيين ومديرها من العلويين، ثم رأينا مراراً فيه ازدحام قال رفيقنا أنه يدعى الشيخ علي البحري وله مقام كبير عند العلويين، وجاء رجل علوي أراد الركوب في السيارة فأوعزنا للسائق أن يجلسه بجانبه وأراد معرفتنا محفياً بالسؤال فأبى البدوي تعريفه بنفسه ولم ندر لماذا أصر على التكتم ولما ألح الرجل عرَّفته به فسلم عليه سلام المحب الواله ثم قال له ورفيقك قال هو صاحب العرفان فقال ها هو إذا الشيخ أحمد عارف قال نعم فسلم علينا واحترمنا وعجبنا كيف عرف وهو عاميٌّ بمجرد ذكر العرفان اسمنا.

طرطوس

وما زالت السيارة تجدّ بنا حتى بلغنا طرطوس بساعة ونصف وهي بلدة واقعة على شاطئ البحر حارة جداً في أيام الصيف وجل سكانها مسلمون وبها جامع تقام به الصلوات الخمس وفيها نزل أيضاً وذهبنا نسأل عن مطعم فدللنا على مطعم تدل ظواهره على حسنه لكن لم نجد به شيئاً من الطعام ورأينا دكان لحام يدل ظاهره أنه أحسن من غيره ولما أردنا أكل شوائه ألفيناه لا يمكن ازدراده. وطرطوس مقر متصرف اللواء وهو اليوم شبلي بك حماده الذي كان بعض مدة الحرب قيِّماً في صيداء وسمعت الألسن هناك تلهج بالثناء عليه. وفي طرطوس برج قديم يرجح أنه صليبي ولا تمكّن الحكومة أحداً من الدخول إليه لأنه متداع وهناك سور ذو حجارة ضخمة متينة. وقد زرنا المتصرف في بيته وفي دار الحكومة التي بنيت جديداً بشكل هندسي بديع وزرنا بيت أحمد بك الحامد أحد زعماء العلويين فقابلنا أحد أولاده وقدم لنا القهوة وسألناه عن والده فأجاب أنه نائم بغرفته ولا يمكن أن يقرع عليه الباب أحد ولم يكن آنئذ وقت رقاد فقلنا تبارك الله أحسن المحالقين…

شَبَهٌ غريب

وركبنا السيارة إلى بيت عليان وهي قرية صغيرة تبعد عن طرطوس عشرين دقيقة في السيارة ويسكن بها الشيخ معلى الغانم من أصدقائنا القدماء ومن شيوخ العلويين المحترمين وفد لقي هذا الشيخ في أيام الثورة اضطهاداً وسجن مدة طويلة حتى ساءت صحته وقد ألفينا المكان المعد لاستقبال الضِّيفان قسم قسمين للضيوف وقسماً جعل مدرسة ولما لم يجدوا مكاناً للمدرسة قدم الرجل محل الضيافة حباً بالتعليم وأي ضيافة أحسن من ضيافة العلم والتعلم وقد علمنا أنه أعلن أهالي القرى المجاورة بتقديمه الطعام والشراب لمن يرسل ولده للتعليم فأكبرنا عمله ولقينا تلك الليلة التي بتناها عنده من كرم الضيافة ما هو به جدير وبدأنا نشعر بالشبه الغريب بين جبل عامل وجبال العلويين وتقارب العادات والأخلاق غير أن هؤلاء الإخوان أصبحوا مستضعفين لانكماشهم في جبالهم وبعدهم عن الحضارة فلا ترى في قراهم سوى المزارات التي يبنونها لشيوخهم، وليس هناك جامع تقام به الصلوات بل لا يوجد من يصلي حتى من الشيوخ أنفسهم إلا ما ندر وليس لديهم من كتب الدين سوى القرآن الكريم.

(شؤون جنوبية)

 

السابق
بالفيديو: هذا ما قالته ديما صادق فانسحب حبيب فيّاض من «نهاركم سعيد»
التالي
مجهولون أقدموا على خطف المواطن ايلي عون بالقرب من بنك عودة في شتورا