متحف لفيروز في بيتها الأول بزقاق البلاط؟

تداولت وسائل الإعلام المحلية في السنوات الأخيرة اقتراح تخصيص متحف لفيروز في منزل طفولتها في بيروت. وأثمرت هذه الحملة الإعلامية تصنيف البيت المهدد المبني في القرن التاسع عشر في حي زقاق البلاط، مبنى ذا منفعة عامة. أبرزت هذه الخطوة الجريئة والواعدة رؤيتين متعارضتين حول مستقبل المدينة. فمن جهة، أظهر مشروع الاستملاك نزعة شعبية متصاعدة نحو انقاذ القليل المتبقي من الارث المعماري للمدينة ورعاية ماضيها العمراني. أمّا من جهة أخرى فقد كشف عن أساليب تأصلت في التغاضي عن تشويه المدينة، وبادرت في كلّ مرّة لاختلاق الذرائع لعدم الامتثال للمطالبة بالمحافظة على الارث المديني.

يُركّز مقالنا هذا على منزل فيروز كفضاء مديني متنازع عليه، ويُبرز قراءات وتفسيرات متعددة لـ”فضاء الصوت” والتراث والذاكرة. كما يعالج العلاقة بين وظيفة المتحف المنشود، في تحويل الموقع من بيت متواضع خاص الى مركز عام مكرّس لفنانة ارتبط اسمها بتاريخ لبنان الحديث بعدما كان صرحاً ذا طابع عام في مرحلة سابقة ترجع الى نهاية العهد العثماني. ونتطرّق في بحثنا عن معنى المحافظة على الموقع الى العقبات التي قد تواجه حملة اعادة احياء هذا البناء العثماني.
نعود بدايةً الى المرسوم الوزاري الذي ردع رسمياً أي تعديل في الموقع والذي استند إلى معلومات وردت سابقًا في بيان المديرية العامة للآثار للعقارين 565 و567 في منطقة زقاق البلاط. كان هذا التقييم قد ذكر “أن المبنيين القائمين عليهما يشكلان وحدة هندسية متكاملة”. وأكد النص أن القيمة اللافتة للموقع تعود ليس فقط إلى العناصر المعمارية فيه بل أيضًا إلى كونه يشكل نموذجًا مهمًا للتخطيط المدني لبيروت في آخر القرن التاسع عشر. وأقر المرسوم من جهة أخرى بالدلالات “التاريخية والثقافية” لهذين العقارين مع الإشارة إلى مكانتهما البارزة في الذاكرة الجماعية للمجتمع نظراً إلى صلتهما بالحقبة العثمانية وبفيروز. لقد مثّل هذا النص محاولة أولى للمحافظة على فضاء مادي لارتباطه بفيروز، يختلف الى حدٍّ كبير عن مواقع أخرى ارتبطت بمسيرتها الفنية، مثل مسرح البيكاديللي في بيروت أو هياكل بعلبك أو غابة الأرز أو قصر بيت الدين أو غيرها من الصروح. فالموقع هنا يتجذّر في حياة الفنانة وفي علاقتها الاجتماعية والمهنية الأولى بجوارها المديني. وقبل أن ندخل في تفاصيل هوية المكان المتنازع عليه، من المجدي ان نشير الى أنّ كل سعيٍ للمحافظة على الارث المعماري يتمثلُّ في مراحل ثلاث:

أولاً مرحلة الإنقاذ: وهي مرحلة المطالبة الحثيثة بوقف عمليات الهدم أو التحويل للتراث المعماري بهدف الوصول الى قرارٍ قانوني يمنع التغيير أو العبث بموقع معيّن ذي منفعة عامة. تشكّل هذه المرحلة تمهيدًا أوليًا لمشاريع المحافظة من ترميم واعادة تأهيل.

ثانيًا مرحلة المحافظة: وهي المرحلة الأوّلية لتطبيق الإجراءات القانونية من خلال المراقبة والتقييم واستحداث خطط عملية للحدّ من تدهور حال البناء تمهيدًا لاعاة تأهيله الانشائيّة.

ثالثًا مرحلة الترقية: هي مرحلة التدخل الفعلي في الموقع بغية إعادة تأهيله وتوظيفه. وقد لا يفضي ذلك بالضرورة إلى تحويل الموقع إلى متحف.

فيروزفيروزبيت فيروز زقاق البلاط
لكن فكرة المحافظة على الموقعين 565 و567 في زقاق البلاط تزامنت مع فكرة تحويلهما الى متحف لفيروز لأسباب عدّة. أولاً، لأنّ هناك ميلًا حتميًا إلى استباق مرحلة ترقية المبنى، في كل خطة للمحافظة على موقع ذي قيمة جمالية وتاريخيّة. ثانيًا، لأن دعوات المحافظة على الارث المعماري في بيروت نادراً ما آتت ثمارها بسبب الفساد والمناورات غير القانونية. لذا، وبهدف إنقاذ ما تبقى من العقارين، كان لا بدّ من استباق فكرة تحويل البيت العثماني الى متحف يحمل اسم فيروز.
بدأنا مقالنا بهذه المقدمة الاستقصائية لإيماننا بأن عملية تحويل الموقع إلى متحف لا بدّ أن تُبحث من بابٍ علمي دقيق، بعد أن تتضح لنا القيمة المعنوية لهذا البيت. فلنتعرّف الآن أكثر الى أهمية هذا الموقع من خلال ثلاث قراءات مختلفة تلقي الضوء أولاً على الموقع، وعلى الشخصية التي يرمز اليها، من ثمّ على التاريخ الذي يجسّده في مدينة بيروت. تتمثّل المحاولة الأولى في تحديد قيمة البناء الهندسية قبل التطرق إلى ذاكرة المكان. وتقوم القراءة الثانية، في المقابل، على ذاكرة المكان بغض النظر عن القيمة المتّصلة بالبناء نفسه. وتجمع المقاربة الثالثة المقاربتين السابقتين لتساوي بينهما من خلال تأكيد الجوانب الماديّة والمعنويّة معاً في عملية المحافظة على هذا الارث المعماري.

(النهار)

السابق
هكذا ردت ميريام كلينك على منتقديها
التالي
بالأرقام: نقولا سعادة نخلة يقاضي كارول سماحة ويورطها بهذا المبلغ الضخم!