«لوموند» تتبنّى«الدولة الإسلاميّة»

في العام 2008، أطفأت صحيفة «لو موند» الفرنسية الشمعة الستين لإعلان «دولة إسرائيل»، عبر مقالٍ لم يعتبر الدولة الفلسطينية المنكوبة حديثة الولادة حتى، وإنّما «وُلدت ميّتة». بعد ثلاث سنوات ونيّف أهدت الصحيفة «إسرائيل» صفحة كاملةً باسمها على موقعها الالكتروني، وصفحة أخرى ملاصقة لها بعنوان «إسرائيل/ فلسطين». الصحيفة نفسها، وبعد ثلاث سنوات وبضعة أشهر من بدء الحرب السورية، تهب تنظيم «داعش» صفحةً خاصة به، متفرعةً من قسم «دولي»، لتصير «الدولة الإسلاميّة» رسمياً جزءاً من تبويب الصحيفة.

يتمّ تحديث زاوية «الدولة الإسلاميّة» منذ تاريخ 12 أيلول/ سبتمبر 2014. وفي أول مقال نشر بذلك التاريخ، تفترض الصحيفة تاريخاً لاستمرار صلاحيّة التنظيم بثلاث سنوات: «الحرب على الدولة الإسلامية قد تمتدّ حتى 2017». تعرّفنا الصحيفة على هوية «متبنّاها» الجديد، مظهرةً إياه قوياً مهيباً وجيّد التمويل في مقال يحمل عنوان «المنشأ، العدد، التمويل… الدولة الإسلامية في خمسة أسئلة».
لا تغفل الصحيفة نشر مقالات في هذه الصفحة تتعلّق بaفكر «الدولة الإسلامية» وعلى وجه التحديد عن المرأة الجهادية. تحت عنوان «كيف تصبح بناتنا خليفات»، نقرأ عن الثقافة الفرعية حديثة التكوين عند المرأة الجهادية، حيث صارت «تطمح بالخلافة» مثلها مثل الرجل، حسب ملاحظات معهد الحوار الاستراتيجي عند النساء الجهاديات اللواتي يعشن في كنف «الدولة الإسلامية»، مع مراعاة ما يمليه «دليل الزوجة الصالحة في الجهاد». وفي ظل غياب النقد المسؤول من قبل الصحيفة حيال المعلومة، يغدو ترويج هذه المعلومة المعدّة للرأي العام هدفاً محتملاً أكثر من مجرد نقلها.
أمّا اقتصاد هذه «الدولة» فتتم الدعاية له في الصفحة بوصفه قوياً جداً، يشهر «الذهب الأسود سلاحاً استراتيجياً».
وبعد إشباع الصفحة بمقالات تؤسس لـ «هوية الدولة الإسلامية» من فكر واقتصاد وقوة عسكرية، تدخل الصفحة طوراً إعلاميٍّاً جديداً يبدو فيه جلياً تخوّف دول التحالف المتعاظم من «الدولة». فلا يفوت «لو موند» أن تنشر دعوة واشنطن «لنقل المعركة ضدّ الدولة الإسلاميّة لتشمل شبكة الإنترنت»، وتعهد حلفاء واشنطن بمواجهة «البروباغندا الجهادية» التي تتغلغل في شبكات التواصل الاجتماعي باعتبارها «حرباً مرعبة».
وبتراجع صدى الحرب العسكرية، نشهد بالتوازي تغيراً في طبيعة العناوين والتحليلات المتعلّقة في الصفحة. فنقرأ عنواناً من قبيل «لا يجب هزيمة الدولة الإسلامية عسكرياً فقط، لكن يجب هزيمة إيديولوجيتها»، لأن هذه الجماعة الإرهابية، بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، «تجمع بين العقيدة والتطور العسكري». وهناك عنوان آخر يفيد بأنَّ «باريس لن تتدخل في سوريا» ضدّ «الدولة الإسلاميّة»، بذريعة أنّه «لا إطار قانوني وسياسي يمكن له أن يشرعن التدخل في سوريا، خلافاً للعراق». وكذلك الحال بالنسبة لألمانيا التي «لا ترغب ولا تستطيع التدخل أكثر من ذلك في مواجهة الدولة الإسلامية».
وضمن إشكالية «صدمة الحضارات» التي تثيرها الحرب ضدّ «الدولة الإسلامية»، تنشر «لو موند» ما جاء به وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس، عن استخدام الاختصار العربي اللفظي «داعش» كبديل عن «الدولة الإسلامية»، لأنه أصبح يعتبرها «مجموعة إرهابية وليست دولة»، ناصحاً بعدم استخدام مصطلح «الدولة الإسلامية» لتفادي «اللغط بين مصطلحات الإسلام والإسلاميين والمسلمين» مطلقاً تسمية «سفاحي داعش» بدلاً من «داعش»، وقد تبنى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند هذه التسمية أيضاً. لكنّ الصحيفة لم تبدّل من اسم «متبنّاها» الإعلامي وبقي «الدولة الإسلامية». لا بدّ أيضاً من الإشارة إلى تخصيص الصحيفة صفحة مستقلة لتنظيم «القاعدة» وفيها نقرأ عن اليمن وأفغانستان ونادراً ما نقرأ عن سوريا، كأنّه لا وجود «للقاعدة» في سوريا. يتم تصوير تنظيم «القاعدة» في الصفحة على أنه الملهم، ولكن أيضاً، المنافس الفعلي لـ «داعش» على خشبة المسرح الجهادي.
إذاً، في «حرب الأفكار» هذه، تبنّت صحيفة «لو موند» «الدولة الإسلامية» إعلامياً. نجحت في إلباس المعلومات زينتها من العناوين والتحليلات ووجهات النظر بدقة، وفي جعل هذه المعلومات مفتاحاً حيوياً عبر زمن الحرب الافتراضي المعطى. أشعلت الحرب وأطفأتها من دون أن تفقد شرعية الرأي العام. ليجد متابع الصفحة في النهاية نفسه وقد قرأ عن «دولةٍ» قوية لها هوية عقائدية واقتصادية وعسكرية.
أفلا يرضي هذا غرور تنظيم «داعش» بتقديمه إعلامياً كقطب حرب عالمية ثالثة ربّما وتوثيق «ذاكرته الجهادية»؟ هكذا نجد أنّ الصحيفة التي جعلت فلسطين مجرد جزء من «إسرائيل»، قد جعلت أيضاً سوريا والعراق مجرد جزء من «الدولة الإسلاميّة»، كما تسمّيها.

السابق
معارك حلب توقع عشرات القتلى وتجميدها 6 أسابيع مثار شك
التالي
التطرّف السنِّي والتطرّف الشيعي وغربة الإسلام