تعديل الموقف من الإخوان.. أبرز تغييرات العهد السعودي الجديد

تعاني السعودية من مخاطر كثيرة، الإرهاب، والمشروع الإيراني، والتذبذب الأميركي... إلا أن صناع القرار فيها رأوا أن الخطر الأكبر الذي يواجه المملكة هو "الإخوان المسلمون".

منذ وفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز، لم تعد التعيينات والإعفاءات في المملكة العربية السعودية شأناً داخلياً. كثير منها لم يكن كذلك من قبل، لكنها أصبحت أكثر أهمية في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، ليس لأنها تأتي في مستهل عهد جديد، وإنما لأن حصيلتها المتحققة والمتوقعة ستفضي إلى تغيير كبير في السياسة الخارجية السعودية، ستكون له آثاره الهائلة على الإقليم.

تتمتع السعودية بموقع جيوسياسي هام جداً في المنطقة، ورغم أنها تعاني من مخاطر كثيرة، الإرهاب، والمشروع الإيراني، والتذبذب الأميركي… إلا أن صناع القرار فيها رأوا أن الخطر الأكبر الذي يواجه المملكة هو “الإخوان المسلمون”.

لم يكن في الأمر أي توازن، حتى لو اعتبرنا تجاوزاً أن “الإخوان” خطر على المملكة (ملوك السعودية بمن فيهم الأوائل استندوا إلى “الإخوان” في مسيرة استنهاض المملكة فكرياً وعلمياً)، فقد سارت المواجهة إلى حد اعتبارهم جماعة إرهابية، وعدواً أولاً، ثم بلغ الأمر مداه في تغطية الانقلاب العسكري في مصر ودعمه سياسياً ومده بالمليارات (التي لا يُعرف مصيرها اليوم)، وفي خذلان الغزيين أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير عليهم، في رغبة ظهرت في فلتات الألسن، هي القضاء على الفرع الفلسطيني لـ “الإخوان”، وفي دعم الحوثيين أو إشاحة النظر عن تحركاتهم، في خطة هدفها ضربهم بآل الأحمر (الزعماء التاريخيين لقبائل حاشد و”الإخوان المسلمين”)، فكانت النتيجة أن انسحب “الإخوان” من المواجهة، وسيطرت إيران على صنعاء، العاصمة العربية الرابعة وفق تصريحات النائب الإيراني عن طهران علي زاكاني (24/9/2014).

لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، ففي زمن الحرب السعودية- الإماراتية على “الإخوان المسلمين”، تجمدت وعود دعم المعارضة السورية، وانتشى انقلابيو ليبيا إلى حد تدمير البلد، واضطرت حركة “النهضة” التونسية للتنازل عن المكتسبات الانتخابية التي جنتها بعد الثورة، والعزوف عن المنافسة على موقع رئيس الجمهورية، وبات التجرؤ على “الإخوان”، واعتبارهم تنظيماً إرهابياً -ولو إعلامياً-  أمراً رائجاً في لبنان، وفي بعض بلدان الخليج، فيما اعتبرت إحدى المحاكم المصرية حماس حركة إرهابية مؤخراً.

فوبيا “الإخوان” ضربت أيضاً جسد دول مجلس التعاون الخليجي، على خلفية اتهام قطر بدعمهم، لا سيما في مصر، ووصل الأمر -في سابقة خطيرة- إلى حد سحب السفراء من الدوحة، ما اضطر الأخيرة لتقديم تنازلات في مقاربتها الملف المصري. تركيا لم تكن بمنجاة أيضاً عن تداعيات الحرب على “الإخوان”، وعلاقتها مع كل من مصر والسعودية والإمارات تأثرت بشدة.

في نهاية عهد الملك عبد الله بدا الواقع العربي كئيباً جداً جراء هذه الحرب المفتوحة. النتائج كانت كارثية، استشراء الجماعات المتطرفة، وسيطرة إيران على أجزاء جديدة من الجسد العربي، ومحاصرتها للمملكة العربية السعودية في حزام ناري غير مسبوق، وضياع السياسة الأمريكية من المنطقة، وانهيار كل من ليبيا واليمن والعراق. من الواضح اليوم أن رئيس الديون الملكي خالد التويجري، المتحالف مع حكام الإمارات كان مسؤولاً رئيساً عن هذا الواقع، وأنه وحكام الإمارات كانوا يأملون في أن يمتد تأثيرهم إلى ما بعد الملك الراحل عبد الله، لكن رياح التغيير جرت بما لم تشته آمالهم، فظهرت الآثار المكبوتة لهذه السياسات الكارثية، بتغييرات جذرية في المواقع والرجال.

وفيما بات التويجري رهن الإقامة الجبرية (يتوقع أن تزداد المطالبات بمحاكمته بعد فضائح التسريبات الصوتية حول الأموال المعطاة لضباط الانقلاب في مصر)، أنجز الملك سلمان (كانت تروج حول قدراته الذهنية إشاعات تبين أنها صناعة ممن لم يكونوا راغبين بوصوله إلى العرش) ما يشبه “الانقلاب” على رجال العهد السابق، باستبعاده أولاد الملك الراحل عبد الله (عدا متعب)، وإخراج الشخصية المثيرة للجدل بندر بن سلطان من رئاسة جهاز الأمن القومي، وتعيينه ولياً لولي العهد (محمد بن سلمان)، حاسماً بذلك وجهة الانتقال إلى الجيل التالي.

ولان تغيير الوجوه يستتبع تغيير السياسات غالباً، فقد بدا انقلابيو مصر متوجسين منذ البداية، ووصل بعض القريبين منهم إلى مهاجمة المملكة اليوم، فيما تزيد ضغوط التسريبات الصوتية من فتور العلاقة مع السعودية، لا سيما في الشق المالي المتعلق بوعود السعودية والكويت، لأن الأمر بات مثيراً للرأي العام في كلا البلدين، ومن المقطوع به أنه لا يمكن أن يستمر على الحال التي كان عليها.

يقول المضطلعون على “ورشة” إعادة بناء السياسة الخارجية السعودية، إن الخيارات الجديدة لا تشبه كثيراً السياسات السابقة، ففي اليمن لم يعد الأمر ترفاً سياسياً، وخطره لا يقل عن الخطر الإيراني الذي تصدت له السعودية في البحرين قبل سنتين تقريباً، بل هو أشد، لأن البلد متجه نحو التفكك والحرب الأهلية والوقوع تحت رحمة الميليشيات الحوثية وانتشار “القاعدة”، ما يعني أن مصلحة المملكة اليوم إعادة مد الجسور مع آل الأحمر و”التجمع اليمني للإصلاح”، لا معاداتهم.

أما في مصر فتبدو الخيارات متناقضة تماماً، فتحْت مظلة الحرب على الإرهاب التي يحتاجها كل من عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد للبقاء في الحكم، يتقارب الرجلان، فيما دعم الأسد الذي أصبح بيدقاً في الملعب السوري الخاضع لإيران، يتناقض مع المصالح الإستراتجية السعودية. وفيما تغرق مصر في مشكلات، يريد ضباط الانقلاب أن يحظوا بدعم خليجي لمواجهتها، تجد دول الخليج –عدا الإمارات- أن لا مصلحة لها في أن تجَر إلى أتون استنزاف مالي بلا أفق في زمن انخفاض أسعار النفط. وفي حين يتحول الانقلابيون في مصر أعداءً لحركات المقاومة التي تحظى بشعبية كبيرة في العالم العربي، تجد السياسة السعودية الجديدة أن لا صالح لها في أن تترك القضية الفلسطينية لاستغلال إيران الخالص، بما يمنع من لعب أي دور في ترتيب البيت الفلسطيني لاحقاً، كما كانت تفعل السعودية في السابق.

في الواقع، فإن شراسة المخاطر التي تحدق بالخليج عموماً، وبالمملكة العربية السعودية خصوصاً، لا تترك مجالاً لتأخير إعادة ترسيم العلاقة مع “الإخوان المسلمين”، والعمل على احتوائهم بدلاً من معاداتهم، خصوصاً أن صقور مشروع اجتثاث “الإخوان” لم يفلحوا يوماً – لا في السابق ولا في الحاضر-.

وفيما يستمهل المضطلعون أشهراً قليلة لظهور نتائج التغيير السعودي، يبدو المشهد هائل النتائج بمجرد تخيله، فليس قليلا أبداً اقتراب السياسة الخارجية السعودية من قطر وتركيا، وابتعادها عن الإمارات ونظام الانقلاب في مصر (علاقة الملك سلمان وابنه بكل من الشيخ تميم ورجب طيب أردوغان جيدة جداً على عكس العلاقة بمحمد بن زايد)، وليس قليلاً وضع القدرات البشرية والسياسية للتنظيمات الإخوانية حول العالم في بوتقة تفاهم وتقاطع مصالح مع سياسة دولة بحجم المملكة العربية السعودية ومنظومة بحجم دول مجلس التعاون الخليجي، في زمن حرص الولايات المتحدة على مغازلة إيران أكثر من مراعاة مصالح حلفائها التاريخيين.

وبما أن الملف اليمني هو الأكثر حساسية هذه الأيام، فإن المعلومات تشير إلى عودة التواصل لجَسر ما تهدم من علاقة بين آل الأحمر والقيادة السعودية، سيما بعدما بدا واضحاً أن الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح متواطئ بما أفضى إليه الوضع في اليمن، ولعل التصريح “الصدمة” الذي نُقل عن لسان وزير الخارجية سعود الفيصل مؤخراً: “لا توجد مشكلة بين المملكة وجماعة الإخوان المسلمين، وإنما مع فئة قليلة”، وتوالي مواقف الشخصيات القريبة من الحكم السعودي الجديد في نفيها صفة الإرهاب عن الإخوان مؤشر -لن يكون يتيماً- لعودة التقارب، (فضلاً عن إقالة الملك سلمان للشيخ سليمان أبا الخيل وزير الأوقاف والعدو اللدود لـ “الإخوان”). ويحتمل أن يقوم “الإخوان” السوريون بتفعيل علاقاتهم مع القيادة السعودية الجديدة، لأن الملف السوري بات حساساً جداً هو الآخر بعد ازدياد تورط “حزب الله” والحرس الثوري الإيراني في المعارك، وإيعاز مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي للشباب الإيراني “التوجّه إلى كلّ من العراق وسوريا ولبنان للقتال إلى جانب الحلفاء” (4/2/2015). كما أن دعوة زعيم “الإخوان” التونسيين راشد الغنوشي للملك السعودي الجديد للقيام “بدور تصالحي في مصر وفي المنطقة وفي سوريا من أجل حقن الدماء وجمع الصفوف على كلمة سواء” لم تأت من فراغ، سيما أن الملك سلمان كان قد استقبل بنفسه الشيخ الغنوشي وبحث معه ملفات سياسية حساسة.

في المحصلة فإن التغيير قد حصل، والرهان هو على اكتماله، وفي صراخ الإعلام المصري، الممسوك من انقلابيي مصر، مؤشر واضح على “جنون” من يخشى تبعات تبدل الأزمان.

 

 

السابق
بالصور: من هو «حامد» الذي أشعل شوارع طرابلس بالفالنتين؟
التالي
انقلاب فاحتلال