إيران في زمن روحاني

لم يحصل ان مرّ على إيران عام عادي. فالدولة منذ انتصار الثورة العام 1979 وتحولها الى مشروع سياسي يشبه «الحالة التروتسكية» في سعيها نحو ديمومة ثورية، أو على الأقل في اعادة شحنها الدائم لمعظم شعاراتها، وجدت نفسها في عين الأزمة الاقليمية والدولية. ولأنها كيان سياسي مولود من رحم امبراطورية ممتدة، وإرث فكري وثقافي وعسكري ثقيل، أوجدت لنفسها مجالا حيويا ضمن دائرة يصل قطرها الى المتوسط غربا وإلى شبه القارة الهندية شرقا. وبالتالي، فان الانخراط المباشر في الأزمات والنزاعات، كان استراتيجية ايرانية بامتياز خلال العقود الثلاثة الماضية.

هذا الانخراط فرض على طهران القبول بمسلمات الصراع في الرقعة الجيوسياسية حيث تنشط، وأولها ان امتلاك مشروع قومي خاص «بمفهوم الجغرافيا الوطنية» يفرض صداما مع المتدخلين الكبار، لا سيّما الولايات المتحدة الاميركية والكيان الإسرائيلي. ومن قلب هذا الواقع، ليس منطقيا القول إن الرئيس الايراني حسن روحاني ورث تركة سياسية شديدة التعقيد. فالرجل كان مكونا مهما في مسيرة الثورة الاسلامية بشقها «النضالي» قبل العام 1997، وكذلك كان مكونا مهما في ادارة الدولة المنبثقة عنها، إلى أن أضحى «المكون المهم» في رئاسته الدولة في 15 حزيران 2013.
خلال شهور قليلة، يكتمل العام الثاني من رئاسة روحاني. وهو الذي حُمّل تطلعات شعبية محلية تفوق قدرة الكتف الايراني، كما حُمّل آمالا غربية تتجاوز المصالح القومية للجمهورية الإسلامية، بل وتتخطى صلاحياته داخل دائرة الحكم الصلبة هناك في طهران. فالرجل ينشط محليا ودوليا ضمن هذه المعادلة الشديدة التعقيد، وهو لا يحتاج تعبئة ثورية وتمرينا صباحيا يوميا لتذكيره بطبيعة الدولة وصراعاتها، كما كان الحال مع الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، ولا يحتاج دروسا في العلاقات الدولية والبراغماتية السياسية والخطابة المرنة، بعد التجربة «النجادية» التي تجاوزت حدود المنطق الإيراني نفسه.
يدرك روحاني أن لا امكانية للعودة للخلف. هو يعلم منذ العام 2005 أن نموذج القيادة الذي قدمه الرئيس السابق محمود احمدي نجاد، لا يمكن ان يشكل مخرجاً لأي أزمة في الداخل والخارج، وهو ما دفعه الى الاستقالة من منصبه في المجلس الأعلى للأمن القومي، بعدما كان ممثلا للمرشد الاعلى السيّد علي خامنئي في المجلس، ورئيسا له مدة 15 عاما. فهو ابن الثورة الخمينية ومن القيمين عليها، ولا امكانية للتشكيك بخلفياته لدى اتخاذه القرارات الصعبة او تبنيها، لكونه نائبا لخمس ولايات متتالية بين 1980 و2000، وكان في مناسبتين نائباً لرئيس مجلس الشورى الايراني كما ترأس لجنة الدفاع ولجنة السياسة الخارجية ولجنة الرقابة على الجهاز الاعلامي الوطني. وخلال الحرب الايرانية ـ العراقية، كان قائدا لقوات الدفاع الجوي، وبالتالي فان للرجل ارثا يحّيده عن اختبار الوطنية الدائم.
الواضح ان حسن روحاني ليس شخصية شديدة التعقيد، لكنه ينشط في أكثر الأزمنة الايرانية تعقيدا. يصرّ الرئيس على ان تأثيره في الحياة الايرانية كان واضحا خلال الـ 18 شهرا التي قضاها رئيساً. وهو يسرد مع جهازه الاعلامي انجازات على رأسها وقف نزف الريال المحلي ومحاربة التضخم وتطويق البطالة. لكنه يعلم أن الواقع الاقتصادي الصعب في إيران ليس منعزلا عن الملفات الخارجية، إن لم يكن انعكاسا مباشرا لها. وبالتالي، فان الملفات النشطة التي تديرها الديبلوماسية الايرانية ستكون المدخل الاساس لحل المعضلات الاقتصادية الداخلية، وربما ايضا في اعادة بناء الخريطة الجيوسياسية في المنطقة من الاسفل صعودا.
إن إدارة شؤون الدولة ليست انجازاً، والنجاح في لعبة العلاقات العامة أداة من أدوات الإنجاز فقط. لذلك، فإن الشهور التي قضاها الرئيس روحاني لا تشكل زمن انجازات قياسية، بل ربما المدخل المناسب لأحد أعقد مراحل السياسة الايرانية الخارجية، حيث التعامل واجب مع أربعة ملفات شديدة الحساسية.
الملف الأول هو البرنامج النووي. وحدها الطاقة النووية أثبتت أن لا وازرة تزر أخرى في العلاقة الأميركية ـ الإيرانية، فالاميركي عدو مؤدلج مهما كان براغماتيا، فيما يسعى الرئيس الايراني وهو صاحب المراس النووي منذ توليه مسؤولية الملف في المفاوضات مع الجانب الأوروبي بين 2003 و 2005، لتقديم الحراك الجاري على أنه اكثر من تصدير للخلاف السياسي القائم بين الادارتين الاميركية والايرانية، وأن طهران عاصمة ثابتة في الشرق الأوسط، وهي قطب لا يمكن اذابته كما حصل مع الاتحاد السوفياتي أو تكسيره كما يحصل في بعض بلدان الجوار العربي. وبالتالي، فان التسوية النهائية هنا تضمن عدم تلوث الملفات الشائكة الاخرى بإشعاعات بوشهر. فايران روحاني ورثت الكثافة في الانتاج والتطوير التي عرفها البرنامج النووي في شقي التخصيب وصناعة اجهزة الطرد المركزي. وهي تعلم ان في واشنطن ادارة تستعجل إقفال الملف وتستهلك اوراقها بسرعة قياسية، خصوصاً ورقة الحرب السعرية القائمة في السوق النفطية. فالمدى الزمني لعض الاصابع اقترب من النهاية. لن يصرخ روحاني أولا، لكنه مستعد لايصال بعض الأنين الى مسمع باراك اوباما، بعدما سمع من الاخير أنيناً في ملفات أخرى. ومن دون تشبيك غير مجد، يستعد حسن روحاني لإبرام الصفقة الكبرى بحلول الصيف.
الملف الثاني هو الإرهاب. روحاني لم يعاصر التهديد الشرقي إبان حكم طالبان في أفغانستان. لكنه يشهد ازدهار التنظيمات المتطرفة من ناحية الخاصرة الايرانية الرخوة في العراق مع الامتدادين الحيويين لمنظومة الامن القومي الايرانية في سوريا ولبنان. فالحفاظ على مصالح طهران وحلفائها، وضمان عدم انهيار العراق بحدوده الجغرافية الحالية يُعدان اولوية ايرانية بامتياز. وبمعزل عن سلسلة الأخطاء الايرانية في الملف العراقي ابان حكم الثنائي نجاد – المالكي، فقد فرض تنظيم «الدولة الإسلامية» معادلة جديدة، وهو ما دفع إيران روحاني إلى تخطي عدد من خطوطها الحمر. الأول كان في تعاونها المباشر او غير المباشر مع الاميركيين في الحرب على «داعش»، مع تحميلها الدائم لواشنطن مسؤولية ما جرى. والثاني في تسليح أكراد العراق والتعاطي معهم بشكل مستقل عن السلطة المركزية في بغداد، فيما الثالث في الظهور العلني لقادتها الميدانيين في المعارك، للمرة الأولى منذ دخول الحرس الثوري الايراني الى لبنان في ثمانينيات القرن الماضي.
الملف الثالث هو القضية الفلسطينية. خسرت ايران احمدي نجاد حركة «حماس» بداية «الربيع العربي»، إلى أن خسرت «حماس» إيران بداية «الخريف الداعشي». تعمل ديبلوماسية حسن روحاني على اعادة احتواء حركة المقاومة الاسلامية بشقيها الميداني في غزة والسياسي المتنقل بين الدوحة وأنقرة. فالتغييرات القائمة في العلاقات المصرية ـ السعودية والمصرية ـ القطرية باتت تفرض على خالد مشعل ملاذا آمنا. وبانتظار قد يطول لنهاية المعضلة السورية، لا خيار امام الرجل سوى حسن روحاني. فهو الاقل تطلبا وتقلبا في تعاطيه او تعاطي نظامه مع الفلسطينيين. ونجاح الرئيس الايراني في اعادة انتاج تحالف صلب مع «حماس»، سينعكس على القطب المقاوم الثاني في لبنان، وبالتالي سيعود لـ «حزب الله» الكثير من الرأي العام العربي المهدور في الأزمة السورية.
الملف الرابع هو الخليج. لم يحصل أي تغيير حاسم في طبيعة العلاقات الخليجية الشديدة التعقيد والتداخل. وفي هذا الملف بالتحديد قد يكون حيّز المناورة ضيّقاً ان لم يكن معدوما امام الرئيس الإيراني. فبلدان الضفة الغربية للخليج العربي تتعاطى مع ايران على مبدأ موحد، هو الحفاظ على مصالحها الاقتصادية اي مصالح مجلس التعاون، وفصل هذه القضية عن سائر الصراعات الباردة او الحامية بين الطرفين، بينما يحاول روحاني، اعتمادا على الديبلوماسية الناعمة، تبديد المخاوف الخليجية، خصوصاً السعودية، من عناوين كالتمدد الثوري او تصدير الأزمات، بالتوازي مع محاولته فك الارتباط القوي بين مصالح الادارة الاميركية في المنطقة ومصائر هذه البلدان. وحده هذا الملف يعجز روحاني فيه عن الاتيان بالجديد. المعركة السياسية الحاضرة دوما في هذا المضمار هي سحب العباءة الاميركية او ما تسميه طهران «الهيمنة الغربية» عن الدول النفطية. لكنه يصطدم كما اسلافه بمنظومة مصالح خليجية تتخطى الاعتبارات الإيرانية. وسيبقى الامر معلقا بانتظار خروج مجلس التعاون بمنظور موحد للأمن القومي الخليجي، يفضي ربما الى حوار حقيقي مع الجمهورية الإسلامية.
يمكن لروحاني وفي اجتماع قياسي لظروف معينة انجاز ملفين او ثلاثة من هذه الملفات خلال رئاسته الحالية. ومنها قد يكون المدخل للمنجز الحقيقي الأهم في انتشال المواطن الايراني من أزمته المعيشية الصعبة، وحرف مسار لقمة العيش الايرانية عن الظروف الاقليمية والدولية. في مثل هذه الحالة، تبني إيران قبة عازلة لواقعها الداخلي، تتيح لها مرونة في التعاطي مع الملفات الخارجية، ومنها يمكن للرجل أن يكون الشاهد الأكبر على حقبة قد تكون الاهم في تاريخ الجمهورية الاسلامية منذ ثورتها العام 1979.

http://assafir.com/Article/18/397293

السابق
ذعر في إسرائيل
التالي
أدوية من قوة الإحتياط الفرنسية في اليونيفيل لبلدية كفرشوبا