أبعد من الحوض الرابع

لا يتحرّك رأي عام ولا تتحرّك الأحزاب والتيارات ولا يتأثّر ضمير وطنيّ إلّا إذا تمَّ تحويل أيّ موضوع إلى الحسابات الطائفية، عندها تتحرّك الغرائز ويتحرّك معها العقل وتتحوّل إحدى كبرى المخالفات الدستورية في لبنان إلى قضية تحرّك الأحزاب المسيحية. ومن هذا المنطلق لفتَ نظري ما قرأتُه بقلم الصحافي أنطوان فرح في صحيفة «الجمهورية».

كان لا بدّ من هذه المقدّمة، لأنّ موضوع مرفأ بيروت لم يتحرّك لأنّ اللجنة المؤقَّتة لإدارة مرفأ بيروت تستوفي ضرائب سيادية من المفروض قانوناً ودستورياً أن لا يفرضها إلّا مجلس النواب المنتخب من الشعب وتنفقها كما شاءت بعد موافقة وزارة الوصاية أي وزارة النقل.

بدأت هذه القصّة في أواخر التسعينات وبعد إلغاء الرسوم الحمائية على أغلبية السِلع، وخصوصاً السِلع التي لها مثيلٌ في الصناعة اللبنانية، وكنتُ حينها رئيساً لتجَمُّع صناعيّي المتن وعضواً في مجلس إدارة جمعية الصناعيين اللبنانيين، وتبيّنَ لنا حينها أنّه تمَّ إلغاء الرسوم الجمركية وفي الوقت نفسه تمَّ اختراع رسوم مرفأ، وهي بالواقع رسوم جمركية، لأنّها تُستوفى بحَسب نوع البضاعة وليس على أساس وزنها أو حجمها، فهذه حتماً رسوم جمركية متستّرة تحت اسم رسوم مرفأ أوّلاً هرَباً من شروط الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية التي تطلب من الأعضاء حتى لو كانوا أعضاء مراقبين، مثل لبنان، وهو عضو مراقب منذ ذلك الوقت، عدمَ اللجوء إلى زيادة الرسوم الجمركية، وثانياً لتأمين دخلٍ للمرفأ بعيداً من المالية العامة وربّما بعيداً من أيّة رقابة.

ضرائب سيادية

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الضرائب والتي لا علاقة لها بأيّة خدمة يحصل عليها المواطن تسمّى ضرائب سيادية، وهذه من المفروض أن تكون جزءاً لا يتجزّأ من المالية العامة وأن تدخل إلى موازنة الدولة سيّما وأنّنا في لبنان نعتبر أنّ مبدأ شمولية الموازنة هو مبدأ مقدّس، وكان التبشير به من السلطات الماليّة ومن وزير المالية في ذلك الوقت تبشيراً أين منه تبشير المسيحيين في أصقاع الارض.

إعترضنا حينها على إلغاء الجمارك واعترضنا حتماً على أغلى رسوم مرفئية على سطح المسكونة. وعندما انتُخِبتُ رئيساً لجمعية الصناعيين اللبنانيين طلبتُ من حضرة النائب الصديق أكرم شهيّب أن يوجّه سؤالاً إلى الحكومة عن كيفية السَماح للهيئة المؤقّتة لإدارة المرفأ أن تحدّد رسوماً بحسب نوع البضاعة وبدون حتى المرور بمجلس وزراء، عِلماً أنّ القانون واضحٌ بأنّ الضرائب السيادية لا يحدّدها إلّا مجلس النواب.

وجاءَ الجواب مبهَماً كالعادة يرجع إلى تاريخ عندما كان المرفأ شركة خاصة وإلى العهد العثماني، لتبرير وضع ضرائب سيادية وتسميتها رسوما، وبالواقع أتى الجواب، كالعادة، خارجاً كلّياً عن موضوع السؤال.

تجدر الإشارة إلى أنّ شركات الملاحة ووكلاء السفن يدفعون رسوماً للمرفأ لقاء خدمات المرفأ، ويستوفونها من المستوردين أضعافاً ويُطلقون عليها أسماء وأسماء، منها إذن تسليم، أمّا المبالغ الأساسية فتسمّىF.I.O أي FREE – In – Out وهذه تزيد على الطين بلّة، وبحَسب تقدير بعض المراقبين فإنّ معاملات مرفأ بيروت، وبغَضّ النظر عن الرسوم الجمركية، تزيد بين 2 و 3% على سعر السلعة في لبنان، أليس من الأفضل زيادة الـTVA وإلغاء كلّ الرسوم المرفئية ما عدا الرسوم الحقيقية حسب كلفتها ؟ وبحَسب معلوماتنا إنّ رسوم المرفأ بلغت الى حدود 260 مليون دولار سنة 2014 .

ولا نعلم حجم المبالغ التي دخلت الى ماليّة الدولة من هذه الرسوم. من المفروض حسب الاتفاق ان يتمّ تحويل 25% منها للخزينة اللبنانية والباقي تتصرّف به الادارة لدفع المصاريف وأعمال الصيانة والاستثمارات في المرفأ.

والمثال الافضل عن الاستثمار هو الأبنية المنشأة في حرم المرفأ، وهي بمجملها شبه فارغة الآن، وكان قد تمَّ بناؤها بمواصفات غير مقبولة أبداً، وبالطبع نحن نعلم ذلك من خلال المبنى الذي تمّ تخصيصه كمعرض دائم للصناعة اللبنانية وتمّ استرداده لاحقاً من إدارة المرفأ وما زال إلى يومنا هذا فارغاً لا يُستعمَل ، كما تمّ التوقيع على عقود صيانة واستثمار ومشاريع وردم وتنظيف محطات كلّها دون مناقصات، وكأنّ المرفأ ما زال تحت الوصاية العثمانية وتديره لجنة مؤقّتة تتصرّف بـ 260 مليون دولار كما تراه مناسباً ومن دون المرور بديوان المحاسبة وإجراء مناقصات حسب الأصول.

كنتُ ومن خلال خدمتي في وزارة السياحة في حكومتين متتاليتين، طرحتُ هذا الموضوع مرّات عدّة، وكان يأتي الجواب مبهَماً، وأتى الجواب من الأمانة العامة لمجلس الوزراء شبيهاً بالجواب الذي حصلنا عليه سابقاً من الحكومة، حين تقدَّمَ النائب شهيّب بالسؤال، فتقدّمتُ من هيئة الاستشارات بسؤال حول قانونية فَرض ضرائب من قبَل رئيس للّجنة المؤقتة لإدارة مرفا بيروت ووزير الوصاية، ولم يأتِ الجواب.

وقد كتبَ الصحافي فرَح حول امتعاض الأحزاب المسيحية من ردم الحوض الرابع وتحرّكات في هذا السياق، من هنا أشدّد على أنّ التأثيرات السلبية التي تسبّبها طريقة إدارة مرفأ بيروت هي أبعد وأعمق بكثير من الحوض الرابع، وتمتدّ لتنعكس على كافة الحركة الاقتصادية، تمتدّ إلى جَيب المواطن والصناعي والتاجر ورجل الأعمال، وبالتالي فإنّ هذا الموضوع هو موضوع وطنيّ بامتياز، أعتقد أنّه آنَ الأوان للأحزاب المسيحية أن تتبنّاه وتواجهَه لخَلق التغيير الاقتصادي اللازم.

فنحن نتكلم عن مرفأ يعمل أربع أو خمس ساعات يوميّاً، في حين تعمل مرافئ العالم 24 ساعة يومياً وباعتراف كلّ العاملين وبمحطة الحاويات بأنّ المرفأ يستطيع أن يستوعب ضعفَي حجم العمل اليوم من الحاويات والبضائع دون الحاجة إلى ردم الحوض الرابع، وإذا عجزَ مرفأ بيروت عن الاستيعاب يجب نقل بعض عمليات الاستيراد إلى مرفأ طرابلس بأسعار تنافسية. وأهل الاقتصاد يعرفون جيّداً أنّ نصف التأخير في أعمال مرفأ طرابلس هي من أجل أن يتمتّع مرفأ بيروت باحتكاره المخالف لكلّ القوانين المَرعيّة الإجراء وللدستور.

رسوم مستترة

نحن نتكلّم عن مرفأ لا يراعي الجدوى الاقتصادية في عملية فرض رسومه والتي يجب، كما ذكرنا أن تمرّ بمجلس النوّاب لدرس الأثر الاقتصادي بالدرجة الأولى ومدى انعكاسها على كلّ مواطن. فالمواطن اليوم يدفع 2 أو 3 % من كلّ سِلعة تكاليف مستترة لمرفأ بيروت، ألَا يُعتبر هذا المبلغ كأنّه بمثابة TVA إضافية؟، والأفظع من ذلك أنّه تمّ سنة 2014، بالرغم من شبه الحصار البرّي، زيادة رسوم المرفأ، وهذا عكس كلّ التوجّه الاقتصادي المنطقي.

يجب أن ننتهي اليوم وليس غداً من اللجنة المؤقّتة لإدارة مرفأ بيروت، ويجب إعادة المرفأ إلى حضن الدولة أو استثمار المرفأ من شركات خاصة تعمل لصالح الدولة.

هنا يجب أن يكون دور الأحزاب المسيحية والتي يجب أن تجعل الشأن الاقتصادي من أولوياتها، بالعمل وليس بالشعارات، فمِن خلال جولاتنا في المغتربات، كوزير للسياحة، أو لدى مرافقتي لوزير الخارجية جبران باسيل، استشَفّينا بوضوح أنّ السبب الأساسي لهجرة المسيحيين هو الشأن الاقتصادي، وهنا بيتُ القصيد، فلا يهدّد المسيحي في وجوده غير تهديد لقمة عيشه، وتهديد لقمة العيش تبدأ من السكوت عن الفساد، والسماح باحتكار مرفق أساسي وحيوي لبنان يحتاجه اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى بعد تطوّر الأزمات الحدودية. هذا الموضوع يطال كلّ فردٍ في لبنان، بدون استثناء، فلا داعي لتسييسِه ولمذهبته، لا داعي لدفنِ الرأس في الرمال.

إنّ استمرار الأمر على حاله هو انتصار الفشل على الإنتاجية، والفساد على الشفافية، وتتحمّل الأحزاب المسيحية مسؤوليةً كبرى اليوم لرفض الواقع، وإعادة الملفّات الاقتصادية إلى الواجهة، والحوار الذي انطلقَ اليوم هو الفرصة الذهبية لتوحيد الجهود وتحقيق المصلحة الاقتصادية للمواطن الذي يستحقّ اليوم محاولةً جادّة لرؤية الأوضاع تتطوّر، فقد نختلف على البُعد الاستراتيجي للبنان، وعلى الأحلاف السياسية الخارجية والداخلية، ولكن لا يمكن أن نختلف على لقمة العيش وحقّ المواطن المسيحي في فرصة عملٍ تُبقيه على هذه الأرض، لأنّ استمرار الأمور الاقتصادية بالتدهور لن يُبقيَ لهذه الأحزاب أيَّ ناخب وأيَّ مؤيّد

 

السابق
الحزب أم إيران؟
التالي
عملية القنيطرة بعيون إسرائيل: خطوة جريئة.. أم مغامرة خطيرة؟