الإسلام الجهادي وعولمة الخوف

اكتسب الجهاديون الداعشيون مهارات عدة في توطيد الخوف وترسيخه لدى الجماعات التي سيطروا عليها، وتمكنوا من تعميم رُهاب الإسلام في الدول الغربية. شكل الهجوم الإرهابي على صحيفة «تشارلي إيبدو» الفرنسية الذي يماثل أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 منعطفاً خطراً سيكون له تأثير سلبي على الجاليات المسلمة المندمجة في المجتمعات الأوروبية، والتي أثبتت حضورها الثقافي والسياسي والاقتصادي.

يستغل دعاة الجهاد من التنظيمات الإرهابية، التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي لترهيب أعدائهم، وقد نجحوا إلى حد ما في تكريس الرعب عبر الوسائط الحديثة المستخدمة. يمكن الحديث عن عالم افتراضي جهادي يسعى بكل قواه إلى عولمة الخوف. ينهض عالمهم على قواعد انفصامية/ انشطارية. نحن في مواجهة أنماط قديمة تمتزج فيها الإيديولوجية الجهادية التكفيرية والميديا الجديدة.
يتعرض الإسلام لضربات موجعة من الحداثة، ما يدفع إلى استنهاض الموروث العنفي التاريخي الذي تؤججه اليوم جماعات إرهابية، تدَّعي أنها تريد تطبيق الشريعة الإسلامية تحت ظلال السيوف. هذا التسرطن الجهادي الانتقامي أعاد من الماضي كل المخزون الذي بُنيت على أساسه العلاقة المتوترة بين الشرق والغرب، منذ الحروب الصليبية وحملة نابليون على مصر وصولاً إلى الاستعمار القديم والجديد. لاحظ المحلل النفساني فتحي بن سلامة «أن الإسلام استفاق مذعوراً كالنائم الذي تمّ تخديره بطريقة اصطناعية، وظل يتفحص العالم حوله وهو بين اليقظة والنوم». هذه الخلاصة أتت في سياق تحليله لإشكالية «المسافة السياسية الفاصلة بين الذات والدين غير الواضحة بل الزائفة (في الإسلام)، لانعدام التراكم الثقافي المحقق للفصل والمؤدي إلى فتح إمكانات فكّ الرباط، والمؤدي في الوقت نفسه إلى عمليات كبت، وهو ما حصل في أوروبا على امتداد قرون عديدة».
أحدث الهجوم على «تشارلي إيبدو» زلزالاً قد يؤدي إلى تكثيف الإسلاموفوبيا في أوروبا. كل الكتّاب والصحافيين في العالم لا سيما أولئك المعنيين في الشؤون العربية والإسلامية شعروا أنهم في صلب الاستهداف والاغتيال الرمزي. وبصرف النظر عن الانتماء الحركي لمنفذي الجريمة الذين تمتعوا بتدريب عالٍ وتنظيم ملحوظ خلال تنفيذ عملية القتل التي أودت بحياة هيئة التحرير في الصحيفة وآخرين، يمكن القول إن هذا الحدث كرس عولمة الخوف من الإسلام التي نجحت الجماعات الجهادية في تعميمها خصوصاً بعد التمدد الداعشي في سوريا والعراق.
يختزن الاعتداء الإرهابي أبعاداً أخرى كامنة في العمق. ويطرح أسئلة متداخلة ومعقدة: هل يحتاج الإسلام الراهن، على تعدد القوميات والإثنيات التي تعتنقه، إلى تسريع عملية الإصلاح الديني؟ كيف يمكن تغيير رؤية بعض المسلمين إلى الآخر والعالم المحيط بهم على أسس تأخذ في الاعتبار تقبل النقد وتجاوز المقدس الأصولي؟ أي دور للإرث الديني التاريخي في تأطير ثقافة العنف؟ بماذا يشي الاعتداء على الصحيفة الفرنسية الساخرة وما هي رمزياته الخفية؟
الثقافة كما السياسة كما الدين مصابة عندنا بمرض مزمن؛ مرض فكري قوامه عدم قابليتنا للتغيير. يشكل الاصلاح الديني في الإسلام بوابة العبور للمصالحة الحقيقية والجادة مع الحداثة. هذا المطلب لا يندرج في خانة الرفاهية الثقافية، هو حاجة ملحة وضرورية لتغيير العقول، تستدعي إجراء خطة طوارئ وجراحة مؤلمة للخروج من ماضٍ قابض على الأنفاس. تعمل المناهج الإسلامية التي تُدرس في بعض المعاهد الدينية وجزء من المدارس على خلق صور معادية تجاه الآخر المختلف، وتبلور نوعاً من الطهورية التي لا ترى العالم إلاّ من مرآة الذات.
إن انعكاسات الإصلاح الديني الجذري ستكون لها تأثيرات إيجابية في تبديل الأفكار، وعلى الجهات العربية والإسلامية الرسمية المعنية في الملفات التربوية والتعليمية، العمل على تنقية المقررات الإسلامية (التي تُدرس في بعض المعاهد والمدارس) من قوالب العنف وتكفير الخصوم من أبناء الدين نفسه والديانات الأخرى، وتقليص تديين المناهج التي شهدت حالة من الفوران في العقود الأخيرة. من المهم تربية الأجيال على التفكير الحر والاستقلالية وتقبل النقد البنّاء وعدم الركون إلى تأليه الدنيوي والنظر إليه كمقدس متعالٍ.
لم تكن المسيحية القروسيطة في تاريخها المديد أقل عنفاً، ارتكبت باسم المسيح مجازر كبرى وأصدرت صكوك الموت ضد مخالفيها، وأعدمت وجاهدت تحت راية الصليب. مرت بمخاض كبير وأجرت إصلاحاً من الداخل خاضه لاهوتيون إلى جانب العلماء والفلاسفة من أشد منتقدي الدين. تخطت المسيحية الغربية حواجز المقدس، من دون نفي وجود بؤر أصولية مسيحية رافضة للحداثة، تتقاطع في مفاصل عدة مع الأصولية الإسلامية، غير أنها تبقى نماذج محدودة التأثير إزاء مسيحية لا دينية عامة وعلمانية مكرسة في المجتمع والدولة والثقافة.
أصاب الاعتداء على صحيفة «تشارلي إيبدو» ثقافة الجمهورية الفرنسية في العمق، عالم في قلب الحداثة تعترضه هجمة جهادية تدَّعي الانتقام. ليس المطلوب من المسلمين أهل الاعتدال والوسطية (وهم الأكثرية) الاكتفاء بالإدانة فحسب. ما حدث فجَّر الأزمات البنيوية الراسخة، ووضع الإسلام أمام استحقاق مؤجل، استحقاق الإصلاح الديني الذي لا يتحمل أي تأخير. الأفكار هي قاطرة التغيير، وكما أدت الاكتشافات العلمية في أوروبا إلى تبدلات جوهرية وقطعت مع عوالم قديمة، سيؤدي الإصلاح في الإسلام إلى تبدل أنماط التفكير تجاه الدين، وسيسمح بالقفز على أزمة شديدة الالتصاق بوعي فكرة الحرية وإدراك أهمية العقل النقدي لا النقلي.
يتعرض المسلمون اليوم لخطوط تصدع مختلفة: مذهبية وسياسية وجهادية. فاقم الجهاد المسلح ثقافة الخوف ضمن نمطين: الأول، داخلي دفع الكثيرين إلى الصمت – وربما الرضى الضمني نتيجة الصراعات بين الدول الكبرى في الإقليم – وهم أمام صدمة انهيار الدول بفعل المد الجهادي غير المسبوق تاريخياً. والثاني، عالمي أنتج الخوف المعلوم من الإسلام وأعاد إلى الذاكرات الغربية صور همجية سابقة عرفت ذروتها إبان أحداث الحادي عشر من أيلول.
تعمل التنظيمات الجهادية الإرهابية وخلاياها النائمة على تسويق نفسها عولمياً عبر وسائل الاتصالات الحديثة لفرض أيديولوجيتها القائمة على الخوف وتسييده. توظيف الخوف وتسويقه هدفه الترهيب وفرض الرؤية والسلطة وتسليع المقدس الجهادي العابر للقوميات والأديان والحدود.
حاول ويحاول الإسلاميون (الإسلام السياسي والجهاديون) ترسيخ مخاطر الانفصال عن الأصل، ساعين لإقناع جمهور المسلمين أن «مآسيهم الحاضرة ليست سوى جزاء عادل لجريمة الابتعاد عن البدايات» (فتحي بن سلامة، الإسلام والتحليل النفسي، دار الساقي، 2008). لم تنحصر «أوهام الإسلام السياسي» (راجع: كتاب عبدالوهاب المؤدب) في الحدود الجغرافية التي تمددوا داخلها، عملوا على نقلها إلى أوروبا ونادوا ببناء الخلافة الإسلامية (حزب التحرير الذي له وجود في بريطانيا ودول أوروبية عدة يعتبر السبّاق في الترويج لإقامة الخلافة) على اعتبار أن أرض الله كلها حدودهم، لا فاصل زمانياً وحاجز مكانياً لها. على هذا الأساس يمكن فهم كيف أن خلايا إسلامية نائمة في أوروبا تتصرف كأنها تريد تطبيق الشريعة التي تراها من زوايا معتمة، حتى في ديار الكفر، مستخدمة التقنيات الحديثة ذات المنشأ الغربي، لفرض سلطانها الديني بدعوى الدفاع عن الإسلام ضد المعتدين عليه.

http://assafir.com/Article/18/395612

السابق
«شارلي إيبدو» تتحدّى وتنشر اليوم كاريكاتوراً للنبي محمد
التالي
أسئلة ما بعد عملية رومية