«حزب الله» والدولة في لبنان

في عرضه لرؤية «حزب الله» للدولة ولعلاقته بها، يحرص علي فياض، الأكاديمي والنائب المجتهد بين أقرانه في كتلة نواب «حزب الله» خصوصاً، على اعتماد مفهوم الجماعة التي يمكن ان تتفاوت حدود نطاقها الجغرافي الاجتماعي الثقافي الأهلي، من الجب إلى العائلة إلى العشيرة وإلى الطائفة، ومن نطاق الزمرة المحلية الضيقة إلى نطاق سكان منطقة مختلطة طائفياً أو أهل كار وما شابه. لقد اعتمد الكاتب على غموض حدود المكان والزمان في مفهوم الجماعة ليدلل على الجوهر الأزلي لهوية الجماعة الشيعية في لبنان كما في أي بلد آخر عربي أو غير عربي، مستنداً في ذلك إلى مدرسة اعتقادية (ص 15) عابرة لاختلافات المراحل الزمنية، ومستنداً إلى «ما يقره الفقه الشيعي العام… ليستقي حزب الله ثقافته حيال الوطن والدولة».

وإذا كان المؤلف قد أجاد بتعريف مفهوم الشعب (ص 15 ـ 16) وولاءاته التي تستند إليها قواعد الوطن الذي لم يعد يقتصر على مكونات الحدود الجغرافية للموطن والسكان، إلاّ أنه قلّل من ضرورة وجود مكون الدولة كناظم اجتماعي، ليركز على مكون رابع هو القدرة على الدفاع وحماية مصالح الشعب (أو الجماعة؟).
ومع هذا التركيز على مكون «القدرة على الدفاع عن المكان والأفراد وحماية مصالح الشعب»، يبدأ جهد الكاتب في اعتبار وجود مقاومة «حزب الله» مكوناً رئيسياً يأتي قبل المكونات الثلاثة الأخرى لقيام الدولة. وفي هذه المحاجة يصبح وجود دولة لبنان رهين قدرة جماعة من جماعاته الطائفية على حماية أرضه و»مصالح شعبه»، ولو أدى ذلك إلى انفعال بقية الطوائف وإلى تعبئتها أيديولوجياً وعسكرياً لمواجهة المقاومة الشيعية الخارقة لأطماع إسرائيل ولمصالح دول أخرى في المنطقة المتربصة بصمود الدولة اللبنانية الناظمة لاجتماع وتعايش الطوائف.
لقد أكثر الكاتب من التذكير بتركيز الإسلام على واجب الدفاع عن الأرض والأوطان، فأورد تسعاً من الآيات القرآنية مُضافة إلى تسعة من نصوص لمراجع في التراث الإسلامي (ص 18 ـ 19) أفاضت كلها بأحكام الدين والشرع حول ظلم التهجير من الأوطان والحنين إليها والواجب الثمين والجهادي في الدفاع عنها. وكأنه أراد في هذا التركيز أن يُعلي من قدسية القدرة الدفاعية لـ «حزب الله» كشرط أول في بناء الدولة، وهو يعلم أن القدرة الدفاعية لا تكفي وحدها لبناء الدولة، وقد سبق ووفرتها الوصاية السورية ولكنها كانت مخربة لوحدة الدولة اللبنانية ولقدرتها الدفاعية، ولاشتغال مؤسساتها الدستورية. فخرّبت الدولة في لبنان وخسرت الدولة في سوريا.
وفي مكان آخر، يجيد المؤلف في تبرير قيام الدولة التي لا وطن حديث من دونها، والتي يقوم دورها على حاجة «تنظيم العلاقة بين أفراد الجماعة (أي جماعة؟) إلى ناظم تطوَّر مع الزمن، وصولاً إلى تحوله إلى ما يعرف اليوم بالعقد الإجتماعي». غير أن المؤلف الذي أبرز ريادة النبي محمد في تطبيق القانون عند عقد المعاهدات مع الجماعات غير المسلمة، وفي التعامل مع المجتمع ومع الجماعات فيه منذ فجر الإسلام، يعزو اليوم ضعف هذه الإمكانية (ص 26) «لعدم وجود غالبية إسلامية عُظمى». لم يفسر ما المقصود بشرط «الغالبية العظمى»، واليوم يُلاحظ وجود مجتمعات في دول للمسلمين تتجاوز أحجامها عشرات ومئات الملايين ولم تعتمد القانون الذي طبقه نبيُّها. ولكن يبدو ان الكاتب اجتهد، في حال تعذر فرض القانون والعقد الاجتماعي الضروريين لقيام الدولة في نهج النبي الكريم، فاكتفى بالإشارة إلى مجرد شرط وجود الحكومة عملاً بقول الإمام علي «لا بد للناس من أمير برٍ أو فاجر…». وفي هذا اجتهاد أكثر تيسيراً لقيام الحكومات الإسلامية وغير الإسلامية التي يستعصي فيها تطبيق مفهوم العقد الاجتماعي.
إن الخلط بين مفهوم الموطن الجغرافي الثابت للجماعة، وبين المفهوم السياسي التاريخي المتحول للوطن الذي يقترن تشكله بتشكل الدولة، دفع الكاتب إلى اعتبار عناصر الوطن ثابتة هي أيضاً، وفي طليعتها «العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية..». وفي هذا القول إنكار لتاريخية التشكل السياسي للوطن برغم إقراره بحركة السكان فيه ومنه وإليه.
ويُضيف الكاتب إن «حزب الله» يعتبر الدين الإسلامي بما فيه من «تشريعات وفكر وثقافة هو الأصل»، وفي حال اختلفت المذاهب فإن الحزب يعود إلى «المدرسة الفقهية الاعتقادية التي يؤمن بها»، أي إلى من يعتبرهم فقهاءه «العدول»، ولكنه لا يوضح عملية تسييد أي شريعة عندما يكون المسلمون أقلية «مؤثرة» قي دولة متنوعة كلبنان (ص 29)، حيث يُكيّف الحزب مشاركته في الحكومة وفق سياسة الضرورة والاجتهاد في الشرع، وحيث تلح المشاركة من خلال ما يُسميه «تحكيم العقل…والاستدلال والعودة إلى سلوكيات أهل البيت»، مُعتبرا ان في كل ذلك أمراً «بخدمة المجتمع وحمايته والرقي به.. حتى لو كانت السلطة لا تؤمن بالله». ولعلّه استند في تسويغ مشاركته فيها إلى سورة يونس (آية 24) «منكم من يؤمن بالله ومنكم من لا يؤمن بالله والله أعلم بالمفسدين».
وإذا ما بعُدت الأدلة العائدة لسلوكيات اهل البيت في الزمن عن راهنية المشكلات، يبقى أمام «حزب الله» اعتماد مبدأ التكليف الشرعي والالتزام بالتعاليم والإرشادات والتوجيهات (ص 31). والتكليف هنا هو كالصلاة لأنه صادر عن قيادة للأمة «محددة المواصفات». وما الالتزام به إلاّ التزام بولاية الفقيه الذي يُفترض أن يكون على رأس هرم المرجعية الدينية التي هي «امتداد في الإيمان الإسلامي الشيعي لفكرة الإمامة نفسها». وهي مرجعية عابرة لحقبات التاريخ الإسلامي وسابقة على الدولة الحديثة بقرون. ولا مشكلة، كما يقول الكاتب، في أن يكون مصدر التكليف من خارج الجماعة الشيعية اللبنانية، لأنه تكليف يتوجه إلى سلوكات «الأفراد في حياتهم الخاصة». ولا ضير في ذلك طالما ان التكليف لا يتعلق بشؤون الدولة كما لو ان التأثير على سلوكات الأفراد لا تنعكس على توجهات حكومة دولتهم، وكما لو أن قوانين وتوجهات الحكومة اللبنانية يجب ان تبقى غير مؤثرة في سلوكات وخيارات الأفراد ليقتصر تأثرهم بمرجعيتهم الدينية الأعلى وعلى رأسها الولي الفقيه. ويصبح على المرجعية الشيعية أن تُوائم، حيث تستطيع فعلا أو وهماً، بين القواعد الدينية وبين متطلبات العصر طالما أنها لا تمس العقيدة، وأنها تُشرع التكّيف مع متطلبات أي مجتمع (ص 33) في القضايا العامة التي تعود عليه بالنفع الذي تراه. وهنا يجدر التساؤل:
كيف يمكن ان تتعامل المرجعية مع متطلبات مجتمع أو منطقة تعيش على السياحة، وما تفرض أن يتوفر في أسواقها ومطاعمها من فرص شراء وببيع وتعاطي الكحول وتفرض تقُّبل ليبرالية التخالط بين الجنسين؟ وقد أدى تزمت المكلفين بالشرع إلى ابتعاد وفود المواطنين والسياح الغرباء من غير المسلمين ومن الشيعة العلمانيين عن المنتجعات والمطاعم وعن الاستثمار الفندقي في الأرياف والمدن الشيعية (صور وبعلبك) المشهورة تاريخياً وعالمياً. وقد أدّى تقيدهم بحرص المرجع السيد الخوئي في النجف الهادف إلى «تحصينهم من الانحراف ومن المفاسد وحماية أخلاق الدين» (ص 34)، إلى معاناة مظالم النزوح والهجرة عن ديارهم والى دفع البعض منهم ومن عائلاتهم ناحية مفاسد من أنواع حديثة.
أولم يُؤد هذا «التحصين من الانحراف» وهذا الحرص على «التكوين الثقافي للفرد والجماعة على حد سواء»، إلى توسع التعليم والتربية في المدارس الطائفية والمذهبية المُكلفة، وبالتالي إلى تهميش المدارس الحكومية شبه المجانية؟ هذه المدارس التي يلجأ إليها أبناء فقراء المذاهب يتسربون من صفوفها الأولى ليتحولوا إلى الانحراف أو إلى الجهاد في الوقت الذي يتباهى فيه تلامذة المدارس الطائفية والمذهبية، الراسخون في النعمة والسلطة، بتخرجهم محصّنين بثقافات اقرب إلى التنافر منه إلى التنوع وبهويات متعّيشة على تحاصص إدارات وريوع الدولة.
ولماذا لم يراع «حزب الله» حاجة جماعة واسعة داخل الجماعة الشيعية في دعم مشروع قانون تنظيم الزواج المدني؟ مع ان الكاتب أجاد (ص 26)، كما سبق وأشرنا، عندما قال في تبرير «قيام الدولة التي لا وطن حديث بدونها والتي يقوم دورها (ولو كانت غير إسلامية) على حاجة تنظيم العلاقة بين أفراد الجماعة إلى ناظم تطور مع الزمن وصولا إلى تحوله إلى ما يُعرف (في الليبراللية الرومانسية الأوروبية؟) بالعقد الاجتماعي».

السابق
بالصور: إلهام شاهين تعاني من مرض السرطان وتحلق شعرها كليا
التالي
الخطر القادم من «داعش» ليس من الرجال بل من النساء