المسيحيون في لبنان: مواطنون درجة أولى

لطالما كان مسيحيو الشرق أهل ذمّة في أوطانهم باستثناء مسيحيي لبنان الذين تمايزوا عن محيطهم وارتقوا بأنفسهم ووصلوا إلى الحكم؛ قاسموا الدروز بداية في حكم جبل لبنان، ثمّ حقّقوا طموحاتهم بإنشاء لبنان الكبير الذي حكموه بالتوافق مع المكوّنات اللبنانيّة الأخرى حتى العام 1975، تاريخ تجدّد الصراعات الطائفيّة وتوسع دائرتها، والتي انتهت في العام 1990 مع بدء سريان اتفاق الطائف الذي أفقدهم امتيازاتهم، بعدما عجزوا عن الصمود نتيجة انقساماتهم التاريخيّة التي تمايزت فصولها الأخيرة بالخلاف بين العماد ميشال عون ورئيس حزب القوات اللبنانيّة سمير جعجع.

خلاف نشب في السنتين الأخيرتين من الحرب اللبنانيّة، خلاف حمّل الرجلين وزر الضعف المستجدّ في الصفّ المسيحي، خلاف امتدّ أكثر من 25 سنة خسر فيها المسيحيون الكثير من دون أن يحصدوا شيئًا؛ هاجروا، قلّ عددهم، تشتت قواهم، انقسموا، وأمعنوا في الانقسام، حتى قرّر الرجلان التلاقي والتحاور. قرار أتى في خضمّ الخطر الوجودي الذي يهدّد مسيحيي الشرق والخطر الاستراتيجي الذي يلقي بظلاله على أقرانهم اللبنانيين.

تفاؤل يقابله تشكيك
تلقى جوزف كما غيره خبر الحوار المرتقب بين التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانيّة، بتفاؤل كبير، إذ رأى فيه فرصة لتوحيد الصفّ المسيحي المشرذم بين تيار المستقبل وحزب الله، وتناسي الخلافات والترفع عنها بغية تحقيق مصلحة المسيحيين الذين خسروا الكثير بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة، خصوصًا في ظلّ الأخطار التي تعصف في المنطقة.

في المقابل، لم يجد جاد في هذا الحوار من فائدة، فهو حدث متى سدّت كلّ الأبواب أمام الرجلين في الوصول إلى كرسي الرئاسة الذي تسابقا عليه منذ بداية صعودهما على الساحة السياسيّة اللبنانيّة، وتاليًا فإن أي تلاقي بينهما هدفه مصالح خاصّة وليس مصلحة المسيحيين العامّة.

فماذا سيحمل هذا الحوار للمسيحيين؟ هل سيعيد لهم شيئًا مما فقدوه بعد اتفاق الطائف؟ هل سيستعيدون صلاحيات انتزعت منهم، ودورًا فقدوه نسبيًا، ورمزيّة تمايزوا من خلالها أم إنهم وصلوا إلى دَرك أصبح الصعود منه شبه مستحيل، ولم يعد بالإمكان سوى لملمة أشلائهم في محاولة للاضطلاع بدور جديد في هذا الشرق الذي دخل مخاضًا طويلًا لا يدري أحد متى تحين ساعة الولادة؟

الكنيسة: كلنا خسرنا
ما تطلعات الكنيسة لهذا الحوار؟ وكيف تنظر إليه؟ يقول المطران سمير مظلوم لـ”النهار”: “الكنيسة تشجّع كلّ حوار وتقارب وتفاهم وتعاون بين اللبنانيين، فكيف لو كان بين فئتين مسيحيتين، ورّطت خلافاتهما الماضية والحاضرة المسيحيين في مشكلات عدّة، وأثّرت سلبًا في تقدّم الدولة في لبنان، وكانت سببًا من أسباب الفراغ في سدّة الرئاسة. الكنيسة تتطلع لهذا الحوار بكل رضا وتتمنى له النجاح والوصول إلى نتائج إيجابيّة”.

كيف قد ينعكس على الحضور المسيحي الذي تراجع في فترة من الفترات، وهل يساهم في إعادة وحدة المسيحيين بدل تشتتهم بين الطوائف الأخرى محدثين خرقًا في المعادلة السياسيّة؟ يردّ مظلوم: “هذا ما نتأمله، إن وحدة الكلمة حول موضوع معيّن وسياسة معيّنة يحسّن دورهم، كما ويحسّن الأوضاع في الدولة. الحرب اللبنانيّة التي نشبت في العام 1975 والخلافات المستمرّة حتى اليوم أحدثت انحدارًا في أدوار كلّ اللبنانيين، وأنتجت انقسامات قويّة، وأوجدت تدهورًا شبه كليّ في الدولة اللبنانيّة. اليوم كلنا خاسرون طالما الدولة لم تقم في شكل واضح وعلميّ وديموقراطي، يتيح لها أن تأخذ كلّ المواطنين على عاتقها”.

وحدة غير مستفزّة للآخرين!
كيف قد ينعكس هذا التقارب على المسيحيين؟ وكيف قد يؤثّر في دورهم وصلاحياتهم؟ يجيب المحلّل السياسي في جريدة “النهار” سركيس نعوم بأن “وحدة أي طائفة توصل إلى ديكتاتوريّة داخلها، لكن طالما هناك أكثر من تيار وأكثر من حزب وأكثر من زعيم وأكثر من مرجعيّة دينيّة لدي المسيحيين، فالخوف من وحدة موقفهم على الحرية والديموقراطيّة داخل الطائفة غير موجود، وتاليًا إن وحدة الموقف ممكنة من دون أي اندماج مع بعضهم نظرًا إلى الانقسام الحاصل بينهم. من الممكن أن يضعوا سقفًا ويلتزموا فيه في موضوع الرئاسة أو الصلاحيات أو العلاقة مع حزب الله أو تطبيق الطائف، على أن يبقى كلّ طرف في الموقع الموجود فيه راهنًا في الاصطفافات اللبنانيّة العامّة. لكن لا يجب للموقف المسيحي الذي قد يصلون إليه أن يكون مستفِزًا للطوائف الأخرى، بل أن يكون موقفًا عاقلاً ومحقًا وعادلًا”.

هل يصلون إلى هذا المستوى في العلاقة حيث يكون الحرص على المصلحة المسيحيّة غير منفصل عن المصلحة الوطنيّة؟ يردّ نعوم: “إن المبادرة الوحيدة التي تمثّلت بسحب الدعاوى المتبادلة عن الإعلاميين بين التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانيّة، هي خطوة جيّدة وتريح الجوّ المسيحي. لكن الاجتماع بين العماد عون والدكتور جعجع للبحث في العمق لم يحصل بعد، وأنا أستبعد الاتفاق بينهما على حصر الترشيح فيهما واقناع الآخرين بالنزول إلى مجلس النواب لانتخاب أحدهما. الحوار يفضي إلى تهدئة الوضع المسيحي، ولكن خروجه بنتائج جديّة أمر مستبعد”.

عودة إلى الأمجاد؟
ألا يمكن التأمل بعودة الدور المسيحي الوازن إلى الساحة اللبنانيّة، والعودة إلى أمجاد ماضية عاشها المسيحيون أم إن التشرذم الحاصل بينهم الذي قلّص من دورهم وصلاحياتهم أكبر من إمكان تحقيق ذلك، ويدفعهم للتأقلم مع الوضع الراهن؟ يقول نعوم: “إن التأمل من أي حوار غير ممكن، مثلًا الحوار بين حزب الله والمستقبل وعلى الرغم من الدعاية المرافقة له يبقى حوارًا مبدئيًا هدفه تنقية الأجواء وتهدئة الإعلام وتنفيس الاحتقان، فيما المواضيع الأساسيّة تبقى خارج إطار البحث. وتاليًا إن الحوار المسيحي إن توصل لحلّ حول موضوع الرئاسة فهو يؤطّر لدور مسيحي جديد ويخفّف الخوف القائم لديهم، ويسهّل الحوار السني – الشيعي، معمّمًا مناخًا مريحًا بعيدًا من الاحتقان والاستفزاز. لكن لا يمكن النظر إليه أبعد من هذا الإطار فلا نتائج حاسمة فيه. لا شكّ في أنه سيشعر المسيحيين بأنهم ما زالوا هنا ولديهم كلمتهم”.

ويتابع: “المسيحيون ليسوا أقليّة في لبنان، وإذا كانوا عاقلين قد يكونون جسر التلاقي بين السنة والشيعة، ويقيمون توازنًا يعطيهم مكانة جديدة. لا شيء يعيد دورهم السابق ولكن وضعهم ليس ميؤوسًا منه وليس شبيهًا بوضع مسيحيي العراق وسوريا والأردن ومصر واليمن. المسيحيون هم مواطنون درجة أولى في لبنان على الرغم من خسارتهم بعد الحرب”.

السابق
رحيل معن عرب عاشق صُور ومؤرّخها
التالي
من ينقذ السوريين من نقص الأطباء والدواء والأمن؟