آخر ثعالب السياسة اللبنانية

نبيه بري

يخال للبعض أن يوماً سيأتي ويكون فيه رئيس مجلس النواب نبيه بري غادر البلاد سراً هارباً من جنون يحيط به من كل صوب، ويمكن تخيل تلك اللحظة مترافقة مع فرار رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط إلى الولايات المتحدة حتى لو اضطر إلى أن يكون عامل جمع نفايات في نيويورك كما أعلن مرة في العام 2004 تلفزيونياً.

نجح الزعيم الدرزي جنبلاط في تحييد دروز سوريا عن الاقتتال ضد المعارضة والغرق في الدم السوري إلى حد كبير. كما نجح الزعيم الشيعي بري في النجاة من مأزق إعلان موقف واضح مما يجري في سوريا، تاركا قاعدته تقاتل هناك من دون أن يخلق حالة من التحريض والتعبئة المباشرة، ومن دون الغرق في تسعير الاحتقان المذهبي، كما فعل شريكه في الطائفة، وحليف الأمر الواقع الزعيم الشيعي حسن نصرالله.

إلا أنه اليوم، لم يعد لدى هذان العجوزان إلا بعضهما، على الرغم من أعوام طويلة كانا فيها يتجاذبان أطراف الحصص، من ثمانينات القرن الماضي، حين اقتتلا مطولا للإمساك بقرار بيروت، إلى التنافس على الحظوة السورية في لبنان، والحصول على دعم دمشق، ورسم دور أكبر لكل من طائفتيهما في النزاع العسكري في لبنان، وطبعاً، بالتالي، في المحصلة السياسية الناتجة عن الانتصارات العسكرية. إلا أن الرجلين اللذين دخلا الحرب شابين وخرجا منهما قائدين في منتصف العمر ومع حصص كبيرة في النظام السياسي اللبناني، لم يشكا لحظة في موقعيهما، كل منهما يفهم طبيعة البلاد، ويرى إلى أين تسير، ويعلمان أنهما في مركب واحد.

يحاط كل من الرجلين بحالات من الجنون السياسي، وليس غريباً ان يكون كل منهما مثّل في مرحلة من المراحل، رأس حربة في فريقي النزاع السياسي الذي اندلع في لبنان منذ العام 2004 مع الدخول في مرحلة القرار الدولي 1559، والمطالبة برحيل القوات السورية من لبنان عقب غزو الولايات المتحدة للعراق، وتسليم السلاح غير الشرعي. حينها عمل بري على بلورة فريق الثامن من آذار، بينما قاد جنبلاط فريق الرابع عشر من آذار، ووقفا على طرفي نقيض، إلا أنهما لم يكونا متناقضين إلا بالموقع.

ولكن ومنذ بداية الثورات العربية، اختلفت الموازين بعض الشيء، انتقل بري إلى المراقبة الحذرة، وأيد جنبلاط التغييرات بداية مع بعض التحفظ، ثم راح جنبلاط ينحو نحو الوسط، مراعياً شبكته المعقدة من المصالح التي تبدأ في موقعه في البلاد ومحاذيره الأمنية، وعلاقاته الدولية، كان قد خرج منذ أعوام قليلة من الصدمة التي خلفتها له مقابلته مع وزيرة الخارجية في الإدارة الأميركية آنذاك كونداليزا رايس، التي أكدت له أن الولايات المتحدة تريد “تحسين تصرفات بشار الأسد” وليس أكثر. بينما بري الذي أمضى عمراً طويلاً خالياً من الخطايا في علاقته مع عمقه السياسي، أي النظام السوري، فهو لم يعلن الكثير حول رأيه بما يجري هناك، تاركاً لأعضاء حركته السياسية “أمل” ونوابه في البرلمان التحدث هنا وهناك، من دون أن يتورط شخصياً.

يعلم الرجلان أن بلادهما أصغر من أن تتحمل التدخل في صراع كالذي يجري في سوريا، والرجلان اللذان يعدان آخر ثعلبين من ثعالب السياسة في لبنان، نحيا في الأعوام الثلاثة الأخيرة نحو تحالف مع كل من يتمكن من الوقوف في المنتصف، مع رغبة عارمة لدى جنبلاط بانتصار الثورة في سوريا، وإن كان يعلم ضمناً أن الأمور لم تعد بالسهولة أو الإتاحة التي كانت لحظة الانطلاقة في آذار من العام 2011، وخشية حقيقية لدى بري من السياق الذي تذهب إليه الأمور في سوريا، وتالياً في لبنان.

يتفق الرجلان اليوم بشكل كبير، يعلمان أن أسوأ ما يمكن أن يحصل للبنان هو التورط في القتال السوري، وخاصة عبر الجيش والأجهزة الرسمية المحلية، وإن كان أحدهما لا يعلن أمراً فإن الأخر يتولى صياغته وقوله، وكل بأسلوبه. ويعلمان تماماً أن محاولة تنصيب رئيس للجمهورية بأي ثمن هي مغامرة قد تكون قاتلة، وأن “الرئيس المسيحي القوي” هو حلم قد يحمل الخراب إلى البلاد، بعد أن ألغي اتفاق الطائف بفعل التطورات السياسية الدولية والمحلية، وبعد ان انتهت مفاعيل اتفاق الدوحة، وبعد أن أصبح المسيحيون مجرد تابعين لهذا الطرف أو ذاك في لبنان، وفقدوا كل مصادر القوة.

الثعلبان أصبحا عجوزين، هما يدركان أن من يطاردهما طوال الوقت لا يزال يدفعهما كل يوم إلى الفخ، إلى حيث يفترض أن يُقتلا ويُسلخ جلدهما، الثعلبان العجوزان في السياسة اللبنانية يعلمان أن من يدفعهما قد يكون حليفاً لهما أو خصماً، ولكنهما لا يزالان يعرفان إلى أين يتجهان حتى اللحظة، وينظران حولهما إلى الجنون السياسي الممتد من طهران إلى العراق وسوريا ولبنان والسعودية وقطر وتركيا وفلسطين، وينتظران اليوم الذي ستنفجر المزيد من العبوات في لبنان لتعلن عودة الاغتيال السياسي إلى بلاد الأرز.

https://mobile.mmedia.me/lb/ar/commentaryar/564529-%D8%AB%D8%B9%D9%84%D8%A8%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9

السابق
بالفيديو: أول زواج علني للمثليين برسم المجتمع اللبناني
التالي
تسوية تنهي دعوى جنبلاط ضد بدير ـ أبو حمزة