في نقد الاسم المستعار

تشكل حالات التخفّي وراء اسم مستعار ظاهرة معروفة في الأوساط الثقافية والأدبية العالمية، فثمة كتّاب عديدون، في التاريخ الثقافي البشري، اختاروا أسماء جديدة لهم، واشتهروا بها. لم يكن الأمر دائماً بسبب الخوف من الاضطهاد، وإنما كان، في بعض الحالات، أقرب إلى حالة تخلٍ عن انتماء مفروض/ عائلي، أو مناطقي، أو طبقي، أو ديني/ لصالح انتماء آخر، عبر اسم لا يحمل دلالات محددة، كحالة الكاتب الفرنسي موليير، سليل أسرة بوكلين البورجوازية، والتي كانت ترى في كتابة المسرح التراجيدي الكوميدي عملاً مضاداً للقيم البورجوازية الاجتماعية في القرن السابع عشر الميلادي، أو اسم دالٍ على انتماء جديد، كحالة أدونيس الذي اختار اسماً يؤكد على انتمائه الأيديولوجي، بعد انتسابه للحزب السوري القومي الاجتماعي في نهايات النصف الأول من القرن العشرين، أو حالة كاتبات عربيات عديداتٍ فضّلن الكتابة، بدايةً، بأسماء ذكورية، خشية تعرضهن لمضايقات عائلية ومجتمعية.

يحفل التاريخ الأدبي العالمي، إذن، بمئات الحالات من الأسماء المستعارة التي اشتهر أصحابها بها، وغطت تماماً على أسمائهم الحقيقية، بحيث لم يعد أحد يذكرها، أو يعرفها، إلا الباحث المختص في شأن كهذا. على أن ظاهرة الأسماء المستعارة لم تعد مقتصرة على الأوساط الثقافية والأدبية. أعادت وسائل الاتصالات الحديثة الاعتبار لهذه الظاهرة، وعمّمتها. أصبح من الطبيعي، اليوم، أن ترى صفحة فيسبوك شخصية باسم (رحيق العسل)، مثلاً، أو حساب تويتر باسم (الياسمين الدمشقي)، لم تعد الأسماء المستعارة ملجأً للهروب من شيء ما، ولم تعد للدلالة على انتماء جديد، صارت شبيهة بعالم التواصل الاجتماعي العنكبوتي، افتراضية مثله. صارت أسماء وهمية، لا أسماء مستعارة، تشبه الوهم الذي يمنحه هذا العالم لمرتاديه، وهم الانتشار ووهم الصداقات ووهم الشهرة ووهم الحب، عالم مبني على الوهم يستلزم ما يشبهه، أسماء وهمية وبروفايلات وهمية لأشخاص لا ملامح محددة لهم، ولا بصمات خاصة تدل على كينونة هذا الشخص. يشبه الأمر، هنا، مشاهدة فيلم ثلاثي الأبعاد، تشعر، لوهلةٍ، أنك في قلب الحدث، وأنك بطل الفيلم، وأن اسمك هو اسم الشخصية الرئيسية في الفيلم، وما أن تخلع النظارة الخاصة، حتى تعود إلى العالم الحقيقي، مجرد مشاهد يجلس على كرسي في صالة سينما لا أكثر. هكذا كان حالنا مع عالم الافتراض قبل 2011.

مع بداية الربيع العربي، ومع النشاط الثوري المتزايد يومياً، على صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي، اختفت، في البداية، الظاهرة، وكادت أن تكون شبه معدومة. فجأةً شعر العرب المعنيون بالربيع بأهميتهم أفراداً وأسماء. عادت القيمة للفرد كائناً معتزّاً بذاته وصفاته ومتمسكاً بوجوده. كان لهتافات الحرية أن فعلت فعلها لدى غالبية هؤلاء، إذ إن ما كان غائباً هو الفخر الذي يمنحه امتلاك الحرية، أو شجاعة المطالبة بها، الخوف يمنع الذات من الإشراق، ويمنع عنها أسباب الحضور. هذا الحضور هو ما يجعل التمسك بالاسم الشخصي موازياً للفخر. كان لإعلان الانتماء للثورة ما يجعل من التصريح عن ذلك بالاسم الشخصي مدعاةً للاعتزاز. كان للمعادين للثورة، أيضاً، نمط التفكير نفسه. كانت مرحلة الفرز تلك بين مؤيدي التغيير ومؤيدي الأنظمة الحاكمة تستدعي الإعلان عن ذلك بالأسماء الصريحة، تثبيتاً لمصداقية الموقف. ولكن، ما أن بدأ العنف يفعل فعله في المجتمعات الثائرة، في سورية تحديداً، وامتلأت المعتقلات بالناشطين، وتم استحداث هيئات خاصة بمراقبة الناشطين، عبر صفحاتهم الشخصية والعامة على مواقع التواصل الاجتماعي، واعتقال كثيرين منهم عبر هذه الطريقة، استرجعت الأسماء المستعارة والوهمية مكانتها من جديد. لجأ كثيرون إلى هذه الطريقة، ممّن هم داخل سورية، خشية الاعتقال أو التصفية. ومَن كان في الخارج، ولديه عائلة في داخل سورية، كان يخشى عليها من محاولات الانتقام من النظام، فلجأ، أيضاً، إلى الاسم المستعار، لكي يستطيع الكتابة والتعبير عن رأيه من دون عواقب. آخرون ممّن يعيشون في بيئات داعمة جداً للنظام كانوا يضطرون لإخفاء موقفهم الداعم للثورة، والصمت الكامل، أو اللجوء، أيضاً، للاسم المستعار، سواء في كتاباتهم الصحافية، لمَن كان منهم كاتباً أو صحافياً، أو على مواقع التواصل الاجتماعي.

استعادة الخوف الذي ظن الجميع أنه اختفى، في بداية الثورة، تطلّبت استعادة معادلات التخفّي وإلغاء الذات، وإخفاء معالم الشخصية. أصبح الحضور هو للموقف المكتوب والمعلن عنه، صفحة “فيسبوك” الشخصية تُعرف من الموقف الذي تتبناه، وتتم إضافة صاحبها بناءً على الموقف المعلن فيها لا على الاسم، فالاسم، غالباً، وهمي، أو مستعار، ولا يعوّل عليه في المعرفة. قلّة فقط حافظت على اسمها وموقفها، من دون خوف، حتى وهي داخل سوريا.

ومع افتراقات الثورة السورية وتسلّحها، وحالة الجذب والنبذ بين النظام والثورة، من حيث بوادر الانتصار أو التراجع، صار الخوف عاماً، وصار الموقف مسؤوليةً، قد يعاقَب عليها المنتصر لاحقاً. هنا عمد كثيرون إلى تغيير أسمائهم، معارضين للنظام ومؤيدين له. انتشر لقب (Syria) الملحق بالاسم الأول بين مناصري الطرفين، بينما اتخذ بعضهم من اسم المدينة أو المنطقة أو القرية التي ينتمي إليها لقباً. ومع تطور الصراع ودخوله نفق الطائفية، صار الانتماء الطائفي هو اللقب، اللجوء إلى الهويات ما قبل الوطنية، نوعاً من الاحتماء ألغى الذات والشخصية تماماً، وحوّلها إلى مجرد صفحة تتبنى مقولات وآراء، ومواقف متطرفة ربما، أو معتدلة أو محايدة أو مائعة. لكنها لا تستوجب أية مسؤولية، لا أخلاقية ولا قانونية. فمثلاً، صاحب هذا الرأي المتطرف المحرّض على القتل لا يستطيع أحد محاسبته، هو مجرد نكرة غير معرّفة وغير معروفة، مثله، أيضاً، صاحب الرأي المائع أو المعتدل. هذا، أيضاً، أوجد تواريخ من بطولات ما قبل الثورة، لا توجد أية مصداقية لها، سهّل ذلك لسيادة مدعي البطولة والنضال والعمل الثوري، مثلما سهّل لسيادة الشتّامين والمخوّنين والمكفّرين والمتوعّدين والمحرّضين. هكذا أصبح لدى السوريين عدد هائل من المناضلين الكبار، والشعراء الكبار، والنشطاء الكبار، والثوريين الكبار، وكلهم يدعي الأهمية، ويدعي القدرة على التأثير في الداخل السوري. وطبعاً، لا يمكن لأحد ملاحقة مصداقية هؤلاء، فالبحث عن المصداقية يتطلّب المعرفة، وهؤلاء مجرد أسماء افتراضية قادرة على ادعاء أي شيء، من دون أي رادع أخلاقي. الأخلاق، أيضاً، تستلزم إثبات الحضور الكامل، بينما هؤلاء مجرد أسماء افتراضية، لا محل لها من الحضور.

ذلك كله، فعل فعله العميق والبالغ الأثر في مسار الثورة السورية، إذ جعل هذا من اختلاط الأوراق في الواقع السوري أمراً سهلاً، إذ وبعد أن أصبح “فيسبوك”، وأمثاله من المواقع، بمثابة الوثائق المعتمدة في الإحصائيات، كيف يمكن استبيان الرأي الحقيقي للسوريين من الحدث السوري، إذا كانت غالبية الصفحات الخاصة والعامة مغفلة من الاسم الحقيقي؟ كيف يمكن استبيان مصداقية الأخبار التي تنشرها هذه الصفحات؟ كيف يمكن معرفة نسبة المؤيدين للنظام، أو المؤيدين لأسلمة الثورة ودولة الخلافة، أو المؤيدين لدولة مدنية ديمقراطية، طالما يمكن لأي شخص فتح عدة صفحات بأسماء متعددة، وآراء متعددة، ولكل رأي وصفحة مريدون وأصدقاء؟ والسؤال الأهم الآن: إن كان الخوف من العقاب، أو الهروب من المسؤولية، وراء هذا العدد الهائل من الأسماء المستعارة لدى السوريين، فما الذي غيّرته الثورة، إذن؟ وكم يلزم للسوريين من وقت حتى يستعيدوا أسماءهم وحضورهم، لكي يتمكنوا بعدها من استعادة بلدهم ومستقبلهم؟ سؤال أعرف أن ما من أحد يملك الإجابة عليه، على الأقل في المدى القريب المنظور.

السابق
الرجال أكثر غباءً من النساء
التالي
كم تدفع أكبر الشركات من أجور!