حديث في النجف عن «بحر العلوم»

شبلي الملاط

أتيحت لي فرصة زيارة مدينة النجف في الاسبوع المنصرم وكانت لي هذه المداخلة على أحد منابرها العريقة.

بغضِّ النظر عن افتقاد المحبّة وفقدان دماثة الخلق ويوميات الأسى على شباب السيد حسن عزالدين بحر العلوم، تراودني في ذكرى أربعينه قسوة هجر حبيبنا الراحل في ليلة لا ضوء للقمر فيها. هَجَرنا من دون ايعاز، ولا اشارة. يا سيّد حسن كيف تفعل بالأحباب هذه الفعلة؟ كيف تفاجئنا بالسّفر السّرمدي ونحن معوّلون على العقود الطويلة التي بنيناها حول لقاءاتنا في النجف مع السيد الكبير(1) – والتواصل المستمرّ أسبوعاً بعد أسبوع وشهراً بعد شهر في تبادل العلم، لنخوض تواترَ الصداقة سويِّةً نحو العالم الأحسن، سامحك الله على هذه الفعلة…
نحن الأحباب والعائلة، تحرمنا ابتسامتك وتقسو علينا – إنّما هل يجوز أن تقسو هكذا على عالم كامل، ليس فقط عالماً حاضراً، بل تقسو على مستقبل الانسانية برمّتها، أنت الذي جدّدت فكرها في شباب المعنى والأداء، شباب الفكر الذي أوحى لنا أن الفلسفة والفقه قد انفتحا أخيراً على لقاء السلام المستعصي بالدنيا الآثمة، تسبق عودة أئمتنا ومعصومينا وأنبيائنا، اجتهاداً وتحضيراً للعدالة المطلقة بقدومهم… كيف جرأْتَ يا حسن عزّ الدين بحر العلوم أن تغادرنا وقد شَددْتنا بعبقريتك الخلّاقة الى مستقبل الإنسانية أعيد أملُنا فيه بفضلك، ونحن نواجه كل يوم كابوس العنف والجاهلية ملتقين من المحيط الى الخليج، محيطين كلَّ محيط، عنفٌ امتدَّ ظلّه القبيح الى القرية الكونية جمعاء، وأنت تجابهه بالقلم في الكتاب النيّر اللاحق بالكتاب النيّر سنة بعد سنة بعد سنة: “جدلية الثيوقراطية والديمقراطية، المجتمع المدني في الاسلام، مجتمع اللاعنف في الاسلام، الاسلام والفيديرالية…”(2).
لا نقول حَسْبَ كلمات، مجرَّد عناوين، تعابير عابرة، “حشي”(3). نقول دراسات فقهية وفلسفية وأدبية في عمق التاريخ وبديع التجدد، نقول فكراً إشراقياً يأتينا بزخم السُّهروردي والجدّ الأول(4) والسيد الكبير أستاذنا المشترك، بل يأتينا بِجِسْر أشَدْتَه معه بين الحضارتين المتقاتلتين، بعلمك الذي لا يتوقف عند سواد العراق، ولا عند جبال ايران الشامخة، ولا على ضفاف البحر المتوسط، أكرمتنا فيها إضافةً بظلِّك الخفيف مراراً وتكراراً، في ندوات تونس وبيروت ولندن واسطنبول وكندا.
سامحك الله على مغادرتنا يا سيد، لكننا أمناء على رسالتك العظيمة، أوّلها إتمام تعريف العالم بمفكّر اللاعنف المعاصر في الاسلام، وثانيها متابعة ما بدأناه سويّة في هذا المشروع الحضاري الذي يستقي من ينابيع الفقه الانساني العميق، في أعظم تجلياته الشيعية والسنية، في معانيه ومبانيه لشرعة حقوق الانسان المشتركة، يُغْني بها إسلامُك الشرق والغرب معاً، بدأْتَها مسوّدة أقدّمها اليوم بذكراك: “نماذج أربعة من المواد الفقهية:
المادة الفقهية: (الإنسان حر (فلسفياً) في اختيار دينه وعقيدته. فلا يجوز (قانوناً) للدولة إكراه إنسان على اعتناق دين أو عقيدة معينة).
المادة الفقهية: (الناس متساوون في الحقوق والواجبات أي متساوون أمام القانون).
المادة الفقهية: (العدالة… مبدأ إنساني يسعى إلى إيجاد توازن عام في العلاقات الإنسانية وينبغي تحقيقه على كافة المستويات وفي جميع المجالات).
المادة الفقهية: (لا ولاية لأحد على أحد)”(5).
أنهي الأنموذج هنا مقدمةً على عهدنا لك، سامحك الله على مغادرة الأحباب وهم منك عطشون، واليك متعطشون، على عهدنا متابعتها شرقاً وغرباً جسراً قانونياً فقهياً واسلامياً أحْبَبْناه في محياك المرسوم فيه إنسانٌ عالميٌ علماً واخلاقاً.

(1) هو آية الله السيد الدكتور محمّد بحر العلوم، القائد التاريخي للمعارضة العراقية الموحدة وأول رئيس لمجلس الحكم في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وصاحب كتابات مجدِّدة في الفقه والقانون والفلسفة السياسية المعاصرة.
(2) وهي عناوين بعض الكتب الصادرة لحسن بحر العلوم في العقد الماضي.
(3) حكي بالعامية العراقية.
(4) وهو محمد مهدي الطبطبائي بحر العلوم (ت 1212 ه – 1797 م)، مجدّد الدراسة في النجف مرجعاً بعد الوحيد البهبهاني، ومعيد تنظيمها الإداري بتسليم أعمال المرجعية البيروقراطية الى وكلاء لئلا تشكل عبئاً على العطاء الأكاديمي الفقهي الصّرف.
(5) هذه المواد الفقهية مستقاة من مسوّدة مطوّلة كتبها العلاّمة الراحل، تمهيداً لعمل مشترك على شرعة فعلاً عالمياً لحقوق الانسان تضم لأول مرة افضل ما جاء في التراث الفكري الاسلامي من مبادئ تندرج في العالم المعاصر في خانة الدستور ولوائح حقوق الانسان فيه.

http://newspaper.annahar.com/article/195633

السابق
غرق 70 مهاجرا اثيوبيا قبالة سواحل اليمن
التالي
بالفيديو: صفاء مغربي تنهار على الهواء لإتهامها أنها وراء شائعة