سقوط السياسة الخارجية الإسلامية

دمغ رئيس الحكومة احمد داود اوغلو، وكتابه «العمق الاستراتيجي»، السياسة الخارجية التركية بعد العام 2002. وقد حملت نظرية «العمق الاستراتيجي» تلك زعم الانقطاع عن السياسة الخارجية في العهد الجمهوري، وتزعم تركيا للمنطقة كقوة إقليمية رائدة.

وبخلاف ما يروّج له البعض، فإن العمق الاستراتيجي لا يشبه خط العثمانية الجديدة.
في مقالاته في التسعينيات انتقد داود اوغلو النزعة العثمانية بعد التنظيمات، كما انتقد العثمانية الجديدة لطورغوت اوزال مشبها إياها بسلوك باشوات التنظيمات.
النزعة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت تستهدف إيقاف الدولة العثمانية المتشتتة على قدميها، من خلال كسب دعم العناصر المسلمة، مثل العرب والألبان والأكراد والأتراك، كما العناصر غير المسلمة مثل الأرمن واليونان والبلغار واليهود، ودمج هذه المجتمعات بالدولة.
وإذ أشار داود اوغلو إلى أن هذه النزعة لم تمنع انهيار الدولة، فقد اتخذ نموذج عبد الحميد الإسلامي في منع انهيار الدولة، وبنى عليه. انه الايديولوجيا التي تفتح أمام تركيا الباب أن تكون زعيمة الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
وفي الحقيقة وفقا لداود اوغلو فإن القوس الذي انفتح بخروج العثماني من الشرق الأوسط قد انغلق بنهاية الحرب الباردة. وهذا يشكل برأيه فرصة تاريخية لتركيا لتكون زعيمة المنطقة. وكتب في التسعينيات أن أنظمة تسلطية، مثل (الرئيس السوري الراحل حافظ) الأسد و(العراقي) صدام (حسين) و(العقيد الليبي معمر) القذافي و(الرئيس المصري المخلوع حسني) مبارك، لن يكون بإمكانها الوقوف على قدميها. ولذلك تحركت أنقرة لمواجهة القومية العربية بتنظيم الحركات الإسلامية، حتى إذا حانت الفرصة والظروف حملتها إلى السلطة.
وقرر داود اوغلو أن الربيع العربي هو هذه الفرصة، ويجب اغتنامها. وسيكون وصول أحزاب «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في مصر وسوريا وتونس خطوات تاريخية لتزعم تركيا للشرق الأوسط. لكن التطورات التي شهدتها المنطقة، ولا سيما في الآونة الأخيرة، أظهرت لنا أن الأمور لا تسير وفق ما خطط له داود اوغلو. ليبيا في فوضى شاملة. مصر في قبضة السلطة العسكرية، وفي سوريا مئات الآلاف من القتلى والجرحى وتمركز المجموعات الإسلامية المتطرفة على الحدود مع تركيا.
وهناك سببان رئيسيان لعدم تحقق تطلعات داود اوغلو وفشلها. الأول، أن سياسة الرابطة الإسلامية في السياسة الخارجية التي اعتمدها لم تكن متناسبة مع وقائع يومنا هذا. وفي حين عمل عبد الحميد بسياسة ردة الفعل الإسلامية لمنع تشرذم الإمبراطورية فإن الرابطة الإسلامية لداود اوغلو اعتمدت على أهداف توسعية، وعملت على إقامة نظام جديد تحت هيمنة تركيا في الشرق الأوسط. وظن داود اوغلو أن باستطاعته محو التيارات الاشتراكية والقومية العربية التي نشأت خلال القرن الماضي، والعودة بالزمن إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى. واعتقد أن الشعوب في المنطقة، التي كانت تحت السيطرة العثمانية، تتوق إلى العودة إلى الكنف العثماني الجديد بزعامة تركيا. والأدهى أن أنقرة لم تسأل نفسها إذا كانت لديها القدرات العسكرية والمالية والناس الكفؤة كي تحقق هذه الأوهام.
السبب الثاني، هو في البنية التحتية لنظرية العمق الاستراتيجي، حيث اتخذت من نظريات تشريع التوسع الامبريالي في الغرب قبل العام 1945 أساساً نظرياً لها. ومن أجل شرعنة نظرية التوسع التركي في الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز اخذ داود اوغلو نظريات ماكندر الانكليزي وماهان وهاوشوفر من أميركا وألمانيا لتبرير التوسع الكولونيالي. أي ان نظرياته في الايديولوجيا الإسلامية تناغمت مع النظريات الامبريالية الغربية. حيث لم تسقط من قلمها نظرية المجال الحيوي في العشرينيات والثلاثينيات. وفي حين سقطت هذه النظريات قبل العام 1945، كان داود اوغلو لا يتردد في تطبيقها على سياسة تركيا الخارجية.
وإذ انتقد داود اوغلو سياسات تركيا المنطوية على نفسها في عهدي أتاتورك واينونو، وأهمل تجارب الآخرين من بعدهما، فقد أزف، بعد ظهور الربيع العربي، البشرى بأن تركيا ستتخلص من أن تكون منحبسة داخل الأناضول.
لكن إذا كان من مقايسة، فإن سياسة تركيا في العهد الجمهوري نجحت رغم كل المشكلات في أن تبقى بعيدة عن المغامرات، وان تحظى باحترام ملحوظ من الآخرين. أما داود اوغلو فلم يكن يرى ذلك كافيا، وان تركيا ستمحى من الوجود إذا أصرت على مواصلة سياسة الدولة – الأمة. إما أن تكون قائدة أو تمحى من الوجود. وتركيا في ظل قيادة داود اوغلو، الذي يدعي انه يعرف القاهرة ودمشق شارعاً شارعاً، يبدو أنها قد أضاعت الطرق وتاهت.
فترة داود اوغلو التي أهملت الشخصية التاريخية لتركيا في العهد الجمهوري، وقامت بالقطع مع الماضي عبر مغامرات عبثية، جاءت حادثة القنصلية التركية في الموصل لتعلن انهيار سياسة القطع هذه.

السابق
أحمد الحريري: محاصرة عرسال لن تعيد الشهيد البزال إلينا
التالي
الخليج الغني… لم يستقبل أي لاجئ سوري