الأردن و«داعش».. وحرب المآذن

تنشط القيادة الاردنية في ممرات سياسـية شــديدة الضيق وكثيرة التشعبات، مع شبه انعدام لإمكانية العودة للخلف أو حتى المناورة. وعلى هذه القاعدة جاء التحدي الداعشي الى الحضرة الأردنية، فبات لزاما على القــيادة الاردنــية التــعــاطي مع هــذا الملــف بشكــل لا يؤذي مصالح حلفائها، أصحاب المشروع المتصل بالواقع السوري أو العراقي، وعدم الدخول في مواجهة دامية مع اي بيئة داخلية حاضـنة للتكــفيريين، إضافة إلى الحفاظ على توازن يعود بالنفع المادي المباشر مع النظام العراقي القائم حاليا، والحفاظ ايضا على الشعرة الاخيرة التي تربط عمان بدمشق.

لا شك بأن القيادة الاردنية حاولت البقاء في المنطقة الرمادية في مواجهة أكثر القضايا تشعباً واثارة للانقسام العمودي في المنطقة، كالصراع السوري والفوضى العراقية، إلا أن عمان فشلت في سلخ كيانها عن المحور الخليجي – الاميركي لأسباب عدة ليست موضع بحث هنا، من كونها مملكة فقيرة لا تملك موارد طبيعية استراتيجية، الى اعتمادها على مساعدات خارجية وعلى موقعها كممر لخطوط التجارة الاساسية (البريّة) من الخليج العربي الى البحر المتوسط، إضافة لصعوبة الانتقال الى الطرف الآخر لما في ذلك من مصاعب وأخطار، في مقدمها مواجهة الولايات المتحدة على محاور عدة، أهمها طبيعة الدور الاردني في الصراع العربي الاسرائيلي ومستقبل البلاد انطلاقاً من أي تغيير قد يفرضه هذا الملف.
تخشى القيادة الأردنية من أن معارضتها الداخلية قد توحدت من دون حسبان بسبب «داعش» وانخراط المملكة في «الحلف الأميركي الجوي». فالمواقف الداخلية تنوعت منذ بداية الأحداث السورية بين داعم للنظام كالتيارات القومية واليسارية، وداعم «للثورة» كالأحزاب الاسلامية بشقيها «الإخواني» والسلفي.
ومع وجود مؤكد للجماعات السلفية الجهادية يمتد لبداية الثمانينيات من القرن الماضي، مع «الهجرة الجهادية» نحو افغانستان لقتال الجيش الأحمر، ومع احتلال الاميركيين للعراق واسقاطهم نظام الرئيس صدام حسين، أصبح الاردن جسر العبور الاول «للجهاديين» القادمين من مختلف اصقاع الارض للقتال في العراق ضد الاميركيين والعراقيين وجهاديين آخرين في وقت واحد.
هذا الواقع جعل المملكة أرضاً خصبة لأي مغامرة داعشية محتملة في اتجاه العمق نحو الجزيرة العربية، حيث شرعت الجماعات السلفية بعمليات تعبئة شديدة الكثافة من خلال منابر المساجد، خصوصاً في المخيمات الفلسطينية العمّانية كالوحدات والحسين، وفي هذه الاجواء تقوم استراتيجية الردع الاردنية على محاور عدة، الأول يتمثل بمنع التمدد المباشر لـ»داعش» خصوصاً من الجهة الشرقية، والشمالية الشرقية، والممتدة من الانبار العراقية الى درعا السورية، حيث ان المثلث هذا تختلط فيه العشائر بشكل لا يعترف بالحدود وجماركها. ومع صعوبة الاختراق كعمل عسكري مباشر، نظراً لجاهزية الجيش وحتمية تلقيه دعماً من حلفاء وأصدقاء، تعمل التنظيمات التابعة او الفاعلة في فلك «داعش» على تحضير البيئة الداخلية، عبر تأجيج الفوضى لتمهيد التمدد الآتي من الخارج، وهنا يبرز محور الدفاع الاردني الثاني، أي «حرب المآذن».
شهر تشرين الاول الماضي شهد مؤشراً على طبيعة الصراع لم يحظَ باهتمام المراقبين. فعملية «نفير» أبرز شيوخ «التأصيل الشرعي» في المنطقة، الاردني عمر مهدي زيدان إلى سوريا للانضمام إلى صفوف «داعش»، لم تكن مجرد «هجرة جهادية»، بل أقرب الى «نزوح جهادي»، وزيدان هذا هو صاحب «التقليعة» الشرعية الثقيلة التي اتهم فيها التيار الاسلامي المصري بالعلمانية والكفر. وهو الراحل الثقيل الثاني عن الاردن نحو «ارض الجهاد» بعد القيادي سعد الحنيطي. والرجلان لم يخفيا امتعاضهما الشديد من «التضييق» الذي مارسته السلطات الاردنية ضد «أعمالهما الدعوية»، فحكومة عمان وعلى لسان الناطق باسم وزارة اوقافها الاسلامية احمد عزت اعلنت ايقاف 25 خطيبا عن العمل على المنابر لمخالفتهم قانون «الوعظ والارشاد»، عبر الترويج لـ»أفكار متطرفة»، واستبدالهم بآخرين من أصحاب الخطاب «المعتدل».
المساجد ذاتها كانت منطلقا للحادثة الشهيرة في نهاية حزيران الماضي، عندما رفع علم «داعش» امام مسجد في مدينة معان جنوب الأردن. وتحولت الحادثة الى تظاهرة اتجهت نحو مبنى المحكمة ودعت لإسقاط الملك عبدالله الثاني واعلان الخلافة، وهي حادثة تكررت في مناسبتين في المدينة ذاتها، استتبعها قيام قوات بحملة اعتقالات في صفوف الدعاة والخطباء المنتمين لـ»حزب التحرير»، بعد خطب حماسية في المساجد وترويجهم لأفكار الحزب المحظور في الأردن منذ عشرات السنين، كما حُوِّل خطباءُ منابر منتمون لجماعة «الإخوان المسلمين» لأمن الدولة بسبب «خطب دينية» خلال الشهور الاربعة الماضية.
وفي خضم الحرب الباردة بين امتدادات «داعش» داخل الاردن على المستويات الفكرية والامنية وحتى السياسية، جاء تصريح قائد الجيش الأردني مشعل الزبن الشهر الماضي حول جهوزية بلاده لمواجهة التحديات، ليعبر عن عمق المخاوف التي تعــتري المملكة، فهي منذ استقلالها العام 1946 مثلت القلب الضعيف للمشرق العربي. فمن عهد الملك عبدالله الأول الذي اغتيل في القدس في 20 تموز 1951 إلى الملك الحالي عبدالله الثاني، بقيت البلاد عرضة للتشكيك بديمومة نموذجها القائم أرضاً وحكماً وهوية. وهذا أمر لم يشعر أفراد من العائلة الحاكمة بالحرج أثناء ذكره كالأمير الحسن بن طلال عم الملك. فالبلاد شهدت طوال العقود الماضية تقلبات حادة، كادت تودي بأساساتها الاجتماعية قبل السياسية، كالهجرة الفلسطينية القسرية العام 1948، والمواجهات بين «منظمة التحرير الفلسطينية» والقوات الحكومية في ما سمي أيلول الاسود العام 1970، مرورا بالتبدلات التي طرأت على تحالفات المملكة من أحضان عراق صدام حسين إلى دول الخليج العربي.
اليوم يواجه الاردن من خلف غبار المعارك الحامية في العراق وسوريا وبعض من لبنان، حربا مصيرية لا يشعر بحرارتها سوى المنخرطين فيها، وهي حرب تقوم على ست مسلّمات اساسية،
الأولى أن هزيمة «القاعدة» أو «داعش» أو «النصرة» في أي أرض، لا تعني انعدام فرصها في أخرى. والدليل الافغاني حاضر منذ الغزو الاميركي إلى قتل اسامة بن لادن، مروراً بالتجربة العراقية التي تخللها قتل ابو مصعب الزرقاوي.
الثانية أن الانخراط الاستباقي المباشر في الصراع ما وراء الحدود يعد الحل الاكثر منطقية. وهو الاسلوب الذي اعتمده «حزب الله» اللبناني ومن ثم الدول العربية الخليجية مع عمان، في انضمامهم الى الحلف الاميركي ضد «داعش».
الثالثة أن انهيار عمان يعني بالضرورة انهياراً شاملا للحدود السعودية شمالاً بعد أحداث الجنوب على الجبهة اليمنية. وبالتالي فإن استقرار الاردن كدرع اخير لعمق الجزيرة العربية يعد عاملا حاسماً، وذلك بمعزل عن دور المملكة في القضية الفلسطينية بمختلف احتمالاتها، وتلك معضلة أخرى.
الرابعة أن لا يكون الأردن معبراً لربط «داعش» أو «قاعدة» آسيا بشقيقتها الأفريقية، وبالتالي أن لا تلتقي جماعة «أنصار المقدس» بأيقونتها العقائدية «الشامية» على حساب الكيان الأردني.
الخامسة تتصل بتحييد البيئة الفلسطينية / الاردنية عن أي شكل من أشكال الصدام المباشر، فلا الارض ولا الحاضنة الاردنية ولا العناصر الاقليمية مجهزة لتمرير أيلول أسود جديد، ومهما كانت التبريرات.
أما السادسة فتتعلق بالحاجة إلى الإبقاء على مخيمات اللاجئين السوريين واماكن تجمعهم الاساسية شمال البلاد بمعزل عن الجماعة المتشددة المنتشرة على المقلب الآخر في عمق درعا السورية.

السابق
وداعا لـ صباح لبنان
التالي
لماذا ستسحب شركة تويوتا 57 ألف سيارة في أنحاء العالم؟