«حزب الله والدولة في لبنان» لحسن فضل الله(4)

في كتابه الجديد «حزب الله والدولة في لبنان»، يطرح النائب د. حسن فضل الله إشكالية العلاقة التاريخية بين «حزب الله» والدولة منذ النشأة الأولى للحزب في مطلع الثمانينيات حتى الآن.

يحدد الفصل الأوَّل من الكتاب معانيَ الوطن والدولة في الفهم الإسلامي، ويعالج موضوع العلاقة البينيَّة في مجتمع متنوِّع انطلاقًا من إيمان حزب الله بمبدأ ولاية الفقيه. ويستقرئ الفصل الثاني التاريخ الحديث للدولة في لبنان، ومدى انتظام نشأتهــا وعلاقتها بالجماعات التاريخيَّة المشكِّلة للشعب اللبناني.
ويعالج الفصل الثالث إشكاليَّة تلك العلاقة وصولًا إلى نشأة حزب الله ورؤيته لدولة ما قبل «اتفاق الطائف» وما بعده. ويعالج الفصلان الرابع والخامس أداء الدولة نفسها في محطَّات تاريخيَّة كثيرة، ويتناول الفصل السادس حرب تموز 2006، ويقارب الفصل السابع والأخير المرحلة التي تلت تلك الحرب. وجاءت الخلاصات النهائيَّة لتقدِّم ما توصَّل إليه هذا الكتاب من نتائج.
تنشر «السفير» بالتنسيق مع «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» أجزاء من هذا الكتاب. وتضيء الحلقة الرابعة على الرسائل المتبادلة بين «حزب الله» وفريق «14 آذار» خلال حرب تموز.
إنَّ التدقيق في الطروحات التي قُدّمت خلال المفاوضات لوقف حرب تموز، سواءٌ من جهات خارجيَّة (وفد الأمم المتَّحدة، دول أوروبيَّة، وزيرة الخارجيَّة الأميركيَّة كوندوليزا رايس)، أو محليَّة لبنانيَّة (رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ونقاطه السبع، النائب سعد الحريري)، يبيّن أنَّها كانت تتقاطع، أو منسَّقة، أو موحى بها من مصدر واحد، هو الولايات المتَّحدة والهدف منها، هو إلغاء وجود المقاومة، ومن خلال تحقيق هذا الهدف يتم تغيير الهويَّة السياسيَّة للبنان، ولو عن طريق سيطرة دوليَّة عليه. بمعنى آخر تكرار تجربة الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 لإحداث مثل هذا التحوُّل.
تكرَّرت في تلك الطروحات كلّها، عناوين ثلاثة:
÷ انسحاب حزب اللَّه من جنوب الليطاني.
÷ نشر قوَّة متعدّدة الجنسيَّات في جنوب الليطاني، ومن ثمَّ في شماله، والسيطرة على المعابر الحدوديَّة مع سورية، والمطار والمرفأ.
÷ عودة المهجَّرين لا تتم إلَّا بعد التأكُّد من تنفيذ البندَين الواردَين أعلاه.
وضع جورج بوش الحرب في سياق «الفرصة المتاحة لتغيير أوسع في المنطقة»، ولذلك رفضت إدارته أي بحث في وقف إطلاق النَّار قبل تحقيق أهداف الحرب وحدَّد شروط الحل التي حاول فرضها من خلال تمريرها بلغات لبنانيّة وعربيَّة ودوليَّة، وهي كالآتي:
ـ «تمكين حكومة لبنان من ممارسة سلطاتها الكاملة على أراضيها.
ـ نزع سلاح الميليشيات في لبنان.
ـ وقف تدفق الأسلحة غير القانونيَّة.
ـ انتشار قوات الأمن اللبنانيَّة في جميع أنحاء البلاد.
ـ إرسال قوات متعدّدة الجنسيَّات فاعلة إلى لبنان وبشكل سريع (قبل وقف النَّار).
ـ وجود القوات المتعدّدة هو الذي يسهِّل عودة النازحين» (…).
كان ردُّ حزب الله سريعًا برفض أيّ بحث في فكرة إرسال قوات متعددة الجنسيات، وأبلغ مَن راجعه بهذا الشأن أنَّه سيتعامل مع المتعددة الجنسيات كقوَّة احتلال (كان أول من حمل هذا الاقتراح النائب سعد الحريري وقد أرسله من الخارج بواسطة رئيس فرع المعلومات اللواء وسام الحسن وسلمه إلى حسين الخليل وقد لقي رفضًا قاطعًا من الحزب).

دولة ما بعد الحرب!

وفي ذروة المعارك تكرَّرت المحاولة، وهذه المرَّة على قاعدة البحث مواربةً في صيغة دولة ما بعد الحرب، فتمَّ طرح نقاط الحل على الشكل الآتي:
÷ «يجب أن تكون القوات الدوليَّة قادرة على ردع إسرائيل خصوصًا إذا انسحبت من مزارع شبعا، وهذا يحتاج إلى تنسيق مع المقاومة، وهذه الفكرة مقبولة وتضمن الاستقرار للمستقبل.
÷ الحصول على ضمانات بعدم إطلاق الصواريخ على إسرائيل.
÷ تسليم السِّلاح وخاصَّة الصواريخ ومنصاتها للجيش اللبناني بعد انتهاء الحرب على أن يبقى الأمر سريًّا، ويمكن الاتفاق على الصّيغة المناسبة ثنائيًّا بمعزل عن قناة التفاوض المعتمدة.
÷ الاستعانة بالقوَّة المتعدّدة الجنسيَّات، ونشرها على الحدود مع سورية، لمنع نقل السِّلاح عبرها إلى لبنان.
÷ الحصول على جواب واضح وصريح حول الموقف من مشروع الدَّولة وحمايتها ودعمها، فهل المقاومة معه؟ أم مع مشروع خارجي؟ وهذا الموقف قبل وقف النَّار وبعده.
÷ صيغة العلاقة مع حزب اللَّه بعد الحرب وحدود التعاون مع فريق سعد الحريري.
÷ اتخاذ موقف واضح من ملف المحكمة الدوليَّة لأنَّ سورية تريد تخريب هذا الأمر وتفيد المعلومات أنَّها تحضّر بعض الاغتيالات في ظل انشغال الأجهزة الأمنيَّة.
كان جواب حزب اللَّه:
ـ «التفاوض حول وقف الحرب يتم حصرًا من خلال الرئيس نبيه بري، فهو القناة المخوَّلة للنقاش مع الحكومة والأميركيين، وهو محل تأييد واحترام من قِبَل حزب اللَّه.
ـ تسليم السّلاح أو الصواريخ أمر غير وارد كليًّا.
ـ لبنان ليس كوسوفو وطرح القوات الرادعة لإسرائيل أو لغيرها، مهما كانت العبارة، لا يمكن أن نقبله، وهو مجازفة كبيرة بالبلد، وهذا الطرح يبعد عن البلد الاستقرار الداخلي والخارجي، وهو مشروع فتنة، وهذا الأمر خارج النقاش، وهو مطلب أميركي/ إسرائيلي. أمَّا الحل فهو بالجيش اللبناني، وهو جيش وطني، كما أنَّ اليونيفيل موجودة.
ـ في موضوع الصواريخ نحن نستخدمها للرد وللدفاع. اذا أوقفت إسرائيل قصف لبنان والمدنيين، يتوقف حزب اللَّه عن الرد بالصواريخ.
ـ سلاح المقاومة شأن داخلي لبناني محض، ويُناقَش على طاولة الحوار من ضمن الاستراتيجيَّة الدفاعيَّة، ولا دخل للمجتمع الدولي فيه، ولا لإسرائيل وأميركا.
ـ رفض مجرد السؤال عن موقف الحزب من مشروع الدَّولة، لأنَّنا الشركاء الحقيقيون. فحزب اللَّه وعلى رأسه سماحة السيد نصر اللَّه اشتغل بقلبه وعقله من أجل حماية مشروع الدَّولة.
ـ موضوع المحكمة ليس للنقاش الآن، لأنَّنا غير قادرين على التفكير بمحكمة دوليَّة، وبعد الحرب لكلّ حادث حديث.
ـ الاستعداد للتعاون الكامل في المرحلة المقبلة كما كانت الحال قبل العدوان» (قدم هذا العرض النائب سعد الحريري عن طريق اللواء وسام الحسن، فأوفده في 29 تموز 2006 للقاء حسين الخليل) (…).

صفا لبيدرسون: نرفض «المتعددة»

ترافق إخفاق التسويق المحلي للمتعدّدة الجنسيَّات مع محاولات لتقديمها بصورة غير مستفزّة عن طريق الأمم المتَّحدة، ولكن مع التدرُّج التنازلي حول طبيعة هذه القوَّة «لأنَّ الإدارة الأميركيَّة تريد قوَّة دوليَّة مستقلَّة في قرارها عن اليونيفيل، ولم يعد الشرط اللَّازم أن تكون هذه القوَّة المشكَّلة بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السَّابع، وهو ما قبل به الأميركيون والإسرائيليون، لكن رئيس الحكومة اللبنانيَّة لا يزال مصرًّا على إصدار القرار تحت الفصل السَّابع، وتشكيل القوَّة الدوليَّة على هذا الأساس. وإن كان تشكيل القوَّة الدوليَّة المستقلَّة عن اليونيفيل متعذّرًا في حال رفض حزب اللَّه، فالمعبر الضروري هو موافقة الحزب على مثل هذا الطرح» (حمل هذا الموقف ممثل الأمين العام للأمم المتحدة غير بيدرسون ونقله إلى رئيس لجنة الارتباط والتنسيق وفيق صفا، وكان الرد برفض أي قوَّة متعدّدة الجنسيَّات).
جرى البحث في الأفكار التي تساعد على إنهاء الحرب، وحفظ المقاومة، وسلامة القرى الحدوديَّة، وحماية أمنها وطمأنينة أهلها. وكان من أبرز هذه الأفكار التي تنسجم مع مطلب المقاومة، (تحمُّل الدَّولة لمسؤوليَّاتها)، انتشار الجيش على خط الحدود، وهو الانتشار الذي كان مدار نقاش بين الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصر اللَّه. عُرض الموضوع على شورى حزب اللَّه في إحدى جلساتها في الضاحية خلال الحرب، فوافقت عليه لما يُحقّقه من تلبية حاجة وطنيَّة يسقُط معها موضوع نشر قوَّة متعدّدة الجنسيَّات، لأنَّ مهمَّة الجيش هي حماية لبنان، في مقابل طرح المتعدّدة الجنسيَّات لحماية إسرائيل، وأفضى النقاش بين الرئيس بري وحزب اللَّه إلى الموافقة على هذا الطرح، ولكن مع إبقاء الموضوع سريًّا، وخاضعًا للتفاوض، بحيث لا يتم التفريط سريعًا بمثل هذا القرار.
وضعت شورى حزب اللَّه خلال ذلك الاجتماع شروط الحل الممكنة، ومن بينها التمسُّك بسلطة الدَّولة على أراضيها، ورفض سلطة الدُّوَل. وكان التقييم الأولي لمسار المواجهات العسكريَّة أنَّ الحرب تحتاج إلى بعض الوقت، كي يدرك الجانب الإسرائيلي أنَّه غير قادر على فرض شروطه.
تقرَّر حينها العمل على جبهات ثلاث:
ـ الجبهة العسكريَّة، وتتولَّاها غرفة عمليَّات مركزيَّة، وتتفرَّع منها غرف عمليَّات في كل منطقة، وتتبع للغرفة المركزيَّة غرفة عمليَّات إعلاميَّة.
ـ الجبهة السياسيَّة، وقد حُدّدت فيها الأسقف التي يمكن الوصول إليها، والحد الأدنى المقبول، وتمَّ تفويض رئيس مجلس النواب نبيه بري بإدارة المفاوضات لوقف الحرب .
ـ الجبهة المدنيَّة، وتشمل ما له علاقة بالجوانب الإنسانيَّة، كملفات المهجَّرين والشهداء والجرحى، وأعمال الإغاثة بأنواعها كافَّة، بما فيها الإحصاء الفوري للأضرار في المباني والمنازل.
كانت الجبهة الداخليَّة المفتوحة ضدَّ المقاومة، تتحرَّك على مستويات سياسيَّة وإعلاميَّة داخل الحكومة وخارجها، وتركّز على مجموعة عناوين بينها العمل على تفكيك التحالفات من حول المقاومة، ما يسمح بعزلها تمهيدًا لإنهاء وجودها. وقد جرى التركيز بالدرجة الأولى على التيار الوطني الحر بقيادة العماد ميشال عون حيث تعرَّض لضغوط لبنانيَّة وخارجيَّة لفك تفاهمه مع حزب اللَّه.
ووفق ما أبلغني إياه العماد ميشال عون، فإنَّ السفير الأميركي جيفري فيلتمان ناقش معه بإسهاب موقفه من حزب اللَّه على ضوء اندلاع الحرب، وما الذي سيُقدم عليه، ولماذا لا يحاسب الحزب على ما قام به. ردَّ الجنرال بأنَّ حادث حدود لا يؤدّي عادةً إلى حرب، ولا يؤدّي إلى رد فعل بهذا الشكل إذا لم تكن هناك استعدادات مسبقة، وإلَّا يكون ما تعلَّمناه في الدورة العسكريَّة في الولايات المتحدَّة خطأ، أو أنَّهم كانوا يكذبون علينا في تلك الدورة. وحين ألحَّ فيلتمان بضرورة اتِّخاذ موقف وما الذي سيقوله لحزب اللَّه، ردَّ العماد عون: «الآن وقت الحرب وسنحارب معه».

الجزء الرابع 

في كتابه الجديد «حزب الله والدولة في لبنان»، يطرح النائب د.حسن فضل الله إشكالية العلاقة التاريخية بين «حزب الله» والدولة منذ النشأة الأولى للحزب في مطلع الثمانينيات حتى الآن.

يحدد الفصل الأوَّل من الكتاب معانيَ الوطن والدولة في الفهم الإسلامي، ويعالج موضوع العلاقة البينيَّة في مجتمع متنوِّع انطلاقًا من إيمان حزب الله بمبدأ ولاية الفقيه. ويستقرئ الفصل الثاني التاريخ الحديث للدولة في لبنان، ومدى انتظام نشأتها وعلاقتها بالجماعات التاريخيَّة المشكِّلة للشعب اللبناني. ويعالج الفصل الثالث إشكاليَّة تلك العلاقة وصولًا إلى نشأة حزب الله ورؤيته لدولة ما قبل «اتفاق الطائف» وما بعده. ويعالج الفصلان الرابع والخامس أداء الدولة نفسها في محطَّات تاريخيَّة كثيرة، ويتناول الفصل السادس حرب تموز 2006، ويقارب الفصل السابع والأخير المرحلة الَّتي تلت تلك الحرب. وجاءت الخلاصات النهائيَّة لتقدِّم ما توصَّل إليه هذا الكتاب من نتائج.
تنشر «السفير» بالتنسيق مع «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» أجزاء من هذا الكتاب. وتضيء الحلقة الثالثة على معطيات الأيام الأولى لحرب تموز.

تُعتبر حرب تموز من العام 2006 مفصلًا تاريخيًّا في لبنان والمنطقة لأنَّها أوجدت تحوُّلًا استراتيجيًّا لمصلحة المقاومة في الصراع مع العدو. وهي من المحطَّات المؤثّرة في تطوُّر علاقة حزب اللَّه بشركائه من الحلفاء والمناوئين، وبشراكته داخل الدَّولة (…)..
جاءت الحرب في سياق محاولة الولايات المتَّحدة الأميركيَّة فرض معادلة جديدة في المنطقة، بإعادة صوغ موازين القوى فيها، و«كانت لدى إسرائيل الفرصة في تنفيذ ضربة قويَّة لحزب اللَّه وداعميه في إيران وسورية، ولكنَّها أساءت التعامل مع هذه الفرصة»، كما عبَّر الرئيس الأميركي جورج بوش في مذكّراته (…).
سلك الجانب الإسرائيلي في البداية المسار المتوقَّع: محاولة استنقاذ الأسيرين، والقيام بعمليات محدَّدة للضغط على مجموعة أهداف، استنفدها طيلة يوم 12 تموز حتَّى ساعات المساء، وردَّت المقاومة على أهداف منتقاة، ولم يكن في نيّتها تصعيد الموقف ما دام السقف الموضوع للعمليَّة هو تبادل الأسرى.
كانت المجموعة الإسرائيليَّة الحاكمة جديدة (رئيس الوزراء إيهود أولمرت ووزير حربه عمير بيرتس)، وتحضيراتها لم تُستكمل لتنفيذ حرب واسعة، فهي كانت تُعد العدَّة للأشهر القادمة، وفق سيناريو رسمت استراتيجياته الدوائر الأميركيَّة والإسرائيليَّة، لإحداث تغيير جوهري في معادلة المنطقة، وفق الآتي:
÷ ضرب حركات المقاومة في فلسطين عسكريًّا وسياسيًّا.
÷ شن حرب مباغتة على حزب اللَّه في لبنان.
÷ شن حرب على سورية للقضاء على نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بحجَّة تزويد المقاومة بالسّلاح وبخاصَّة الصواريخ، ودعم «الإرهاب».
تمَّ تأجيل الحرب على الجبهة الفلسطينيَّة بعد تشكيل حركة حماس لحكومة جديدة. ولكن إدارة بوش وجدت الفرصة مؤاتية بعد وقوع عمليَّة أسر الجنديين على الحدود اللبنانيَّة، ما دامت العمليات العسكريَّة صارت أمرًا واقعًا، وطلبت من الحكومة الإسرائيليَّة استغلال الحادث على الحدود، وتنفيذ خطَّة الخريف.
استعجلت الولايات المتَّحدة شنَّ الحرب تمهيدًا للخطوة التالية، أي استهداف سورية وإيران، على ضوء صورة الانتصار الَّذي سيحقّقه بوش من البوابة اللبنانيَّة (…).

رسالة الخامنئي إلى نصرالله

حمل اللواء قاسم سليماني رسالة شفهيَّة عاجلة من الإمام السيد علي الخامنئي، إلى السيد حسن نصراللَّه، خلال الأيام الأولى للحرب، وفيها:
«أسأل اللَّه تعالى أن يحفظكم ويوفّقكم ويأخذ بأيديكم وينصركم إن شاء اللَّه.
توكَّلوا على اللَّه تعالى، وإن شاء اللَّه سيذيقكم طعم النصر في الدُّنيا، ورضا ذاته المقدَّسة، وأنا أدعو لكم بالنصر دائمًا.
سلامي للأخوة فردا فردا. ستكون هذه الحرب قاسية، لكن اتَّكلوا على اللَّه، وعليكم الصمود. لدينا يقين تام بانتصار المقاومة، بل أكثر من ذلك، هذه المقاومة ستنتصر وتتحوَّل إلى قوَّة إقليميَّة، وما توفَّر من معطيات (خلال الحرب) أنَّ العدو كان يعدُّ لها لتتم في أوائل الخريف، وكان الإسرائيليون بالاتفاق مع الأميركيين سيبادرون من دون سبب أو ذريعة بالاعتماد على عنصر المفاجأة لشن هذه الحرب. إسرائيل كان لديها خطَّة وقرار لضرب المقاومة في لبنان، وكانت تُعد لذلك، وكانت تريد أن تفاجئكم بالحرب، وكان مخطَّطًا أن يقوم سلاح الجو الإسرائيلي بضرب الأهداف كلَّها خلال ساعات، وبعدها ينفذ العدو عمليَّة بريَّة ويحتل قسمًا من الجنوب، ويضربكم في مختلف المدن، ثمَّ يكمل عمله للقضاء على حزب اللَّه. وما كان لهذه الحرب أن تقف عند هذه الحدود، إنَّما هدفها تغيير المنطقة، ولكن الَّذي حصل من خلال عمليَّة أسر الجنديين أنَّ حزب اللَّه، من حيث يعلم أو لا يعلم، أفقد الخطَّة الإسرائيليَّة عامل المفاجأة، وأجهض مشروع الحرب المُعد لأوائل الخريف، فلقد فرضتم عليهم (إسرائيل وأميركا) التوقيت، وما كانوا يريدون القيام به في وقت هم يختارونه، يقومون به الآن، وهذا ما أفقد العدو عنصر المفاجأة، وهذا كان من ألطاف اللَّه عزَّ وجل الخفيَّة بكم.
الحرب لم تكن بسبب الجنديين، إنَّما كانت جزءًا من مشروع محضَّر، ولمَّا أخذتم الجنديين عجَّل الأميركيون والإسرائيليون في الحرب قبل أن يُكملا استعدادهما عدَّةً وعتادًا، ووجدوا أنَّهم متورّطون، وفقدوا عنصر المفاجأة، وبذلك دفع اللَّه عنكم وعن لبنان وعن المنطقة ما كان أكبر بكثير.
لقد صمد حزب اللَّه حتَّى الآن عشرة أيام في الوقت الَّذي هُزِمت فيه الدُّول العربيَّة خلال ثلاثة أيام. هذا نصر جيد، لكن يجب أن تواصلوا العمل، ما تريده إسرائيل من القضاء على المقاومة لن يتحقَّق إن شاء اللَّه. العدو قلق، ومشكلته كبيرة، وليست أقل من مشكلتكم، بل هي أكبر. لقد أصبحتم أسطورة في العالم، وعليكم أن تقفوا وتُثبتوا للعالم أنَّ حسابات أميركا وإسرائيل كانت خاطئة.
حربكم هذه حرب مصيريَّة، وهي تشبه معركة الخندق، وكانت حينها حربًا قاسية وصعبة، وبلغت فيها القلوب الحناجر، وقال المنافقون: فلنعد إلى بيوتنا، أين هو النصر الإلهي الَّذي يعدنا به محمد ؟ ولكن اللَّه تعالى نصر المؤمنين بعد أن ثبتوا وصبروا.
نحن معكم وسندعمكم في كلّ شيء ولا تقلقوا، المهم أن تصبروا وتثبتوا في وجه هذا العدو مع التأكيد على الاهتمام الكبير بالنَّاس، لأنَّهم يريدون عزل النَّاس عنكم. إذا وفَّق اللَّه للنصر ستصبحون قوة لا تقف في وجهها قوة» (…).

سباق النيران

كانت وقائع اليوم الأوَّل للحرب كفيلة بكشف المسار الَّذي سيسلكه الفريق الممسك بقرار السُّلطة. بدأ ذلك المسار بعد ساعات على تنفيذ عمليَّة الأسر، فحين أُبلغ رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بتفاصيلها، ردَّ بتحميل المقاومة المسؤوليَّة الكاملة عن النتائج، وأنَّ لبنان سيدمَّر كما هي الحال في غزَّة، واستكمل موقفه داخل مجلس الوزراء في يوم العمليَّة بالتنكُّر لقضيَّة الأسرى. إذ «لا يكفي إقناع أنفسنا، ولكن إقناع العالم من حولنا، فلدينا أسرى منذ 30 سنة، فهل اضطررنا اليوم إلى حلّ القضيَّة. وموضوع المعتقلين مرَّ عليه 30 سنة، وقد أخذنا القضيَّة اللبنانيَّة وأدخلناها في القضيَّة الفلسطينيَّة، وبقضيَّة المحتجزين في غزة والضفّة».
ترافق هذا التنكُّر مع ممارسة التهويل على المقاومة، بحيث لم تُترك مفردة من مفرداته إلَّا واستُخْدِمت. فقد كان الخطاب المباشر الموجَّه إلى المقاومة يعتمد على تثبيط العزائم، وجرى صوغه بلغة متشابهة: «إسرائيل ستمسح لبنان وتدمّره، وستفعل بكم كما فعلت بغزَّة، وهناك سيناريو كامل لهجمة إسرائيليّة لتدمير كلّ شيء، وما عليكم إلَّا تسليم الأسيرين للحكومة لتلافي ما هو أعظم»، كما قال السنيورة للمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل في اليوم الأول للعدوان، وكذلك سمعها الأخير من النائب سعد الحريري وذلك من خلال الاتصالات الهاتفية معه.
لم يختلف التعاطي داخل الحكومة عمَّا ساد خارجها، فقد انتفت الفواصل بين ما هو سياسي تُعبّر عنه القوى الحزبيَّة، وما هو رسمي تعبّر عنه الحكومة، وجرت في مداولات مجلس الوزراء محاولة حثيثة لعزل وجهة نظر المقاومة، وحصارها، وفرض الشروط عليها. «فإسرائيل تبحث عن انتصار، وهذا الانتصار لن يكون إلَّا عن طريق الانتقام، وليس لديهم أي خيار إلَّا القيام بعمليات انتقاميَّة. غزَّة مُسحت» (مداخلة السنيورة في مجلس الوزراء في 12 تموز). وحين جوبه هذا المنطق، بأنَّ هناك عدوانًا والمقاومة تتصدَّى له، كان الرد بأنَّ الظروف تغيَّرت عن العامين 1993 و1996 في إشارة إلى انتصارات المقاومة على العدوانَين الإسرائيليَّين آنذاك. «لأنَّ الدنيا من حولنا تغيَّرت.. تخطينا الخط الأزرق.. البلد منهك، وأدخلنا البلد في أتون، وفي مخاطر غير محسوبة»، والكلام للسنيورة في الجلسة نفسها.

«نقطة على السطر»

لم يتم الاكتفاء بتحميل المقاومة وزر بدء الحرب، وما يُمكن أن ينجم عنها، ولا التنصُّل من المسؤوليَّة، بل جرت محاولة لصوْغ بيان الحكومة في اليوم الأوَّل للعدوان بلغة تساوي بين الفعل وردّ الفعل، وتلا رئيس الحكومة داخل الجلسة نصَّه، وفيه: «لم تكن الحكومة على علم بما جرى ويجري، ولم توافق على ما جرى ويجري على الحدود الدولية، وتستنكر بشدَّة ردَّات الفعل الإسرائيليَّة، وتبدي الحكومة استعدادها للتفاوض عبر الأمم المتَّحدة».
لقد جرى طرح عناوين ثلاثة:
÷ عدم موافقة الحكومة على العمليَّة.
÷ استنكار ردّ الفعل الإسرائيلي.
÷ استلام ملف التفاوض عبر الأمم المتَّحدة عبر طرف ثالث.
كانت هذه العناوين الثلاثة تحمل في طيَّاتها تحميل المقاومة المسؤوليَّة، ووضع العدوان في سياق ردّ الفعل (…).
كانت الذريعة الَّتي سِيقت لتبرير هذا الاستهداف المباشر للمقاومة بأنَّ العالم يتَّصل برئيس الحكومة، «ويطلب استنكار هذا الاعتداء، يريدون «to condemn»، فالجماعة يريدون من لبنان أن يدين ويستنكر، وأن يُعيد الأسرى، ونقطة على السطر (مداخلة السنيورة في جلسة مجلس الوزراء في 12 تموز).
«النقطة على السطر» هي شروط الحل الآتية على صهوة فرض حصريَّة السّلاح بيد الدَّولة، ونزعه من المقاومة، ومسمَّاه الرسمي بسط سلطة الدَّولة على الحدود. بدت العبارات برَّاقة، لكنَّها تستبطن مندرجات القرار 1559 الَّذي أدرجته إسرائيل في سياق الأهداف المتوخَّاة من حربها.
أُشهِر في وجه المقاومة سلاحُ التصويت (على قاعدة وجود الأكثريَّة المقرّرة)، لاتّخاذ قرار الحصريَّة، والمباشرة بتنفيذه على خط الحدود في الجنوب. صيغت عبارات القرار في اليوم الثَّاني للعدوان بطريقة تؤدّي حكمًا إلى وقوع صدام داخلي، لما تضمَّنه مِن فرضِ نزع سلاح المقاومة وهي لا تزال في ميدان المواجهة، ومِن وضعِ الجيش اللبناني وجهًا لوجه في مواجهة المقاومة، وهو الَّذي كان يتعرَّض للقصف الإسرائيلي. ردَّت المقاومة بأنَّ «هذا الموضوع يتوقف عليه مدى تلاحم الحكومة، وسيوصل إلى خلاف كبير في البلد، وهو ليس خاضعًا لمنطق الأكثرية والأقلية» (مداخلة الوزير محمد فنيش في جلسة مجلس الوزراء في 13 تموز 2006).

إميل لحود شريك المقاومة

شارك رئيس الجمهوريَّة إميل لحود المقاومة في وجهة نظرها، وقدَّم رؤيته المبنيَّة على تجربته في قيادة الجيش، لأنَّ فرض الحصريَّة بذريعة التشدُّد في بسط سلطة الدَّولة يفتح المجال أمام مشكلة كبيرة في البلد، بخاصَّة في ظلّ استحالة وضع الجيش بطريقة مكشوفة في مواجهة العدو من دون القوَّة الرادعة للمقاومة، وتمسَّك لحود بضرورة التفاهم الداخلي «لأنَّ أي خلاف سيكون أقوى من المدافع الإسرائيليَّة. أمَّا المقاومة، وعلى الرغم ممَّا فعله العدو، فلم يتغلَّب عليها وعلينا، فهل يمكن أن نقوم نحن بتسليمهم هذا السّلاح ونعلق سويًّا»، ووافق رئيس الجمهورية على طرح المقاومة بالتأجيل، لأنَّه هو غير راضٍ أيضًا، وإلَّا فسيرفع الجلسة لمنع التصويت.
لم يكن هذا التوجُّه (نزع السّلاح) مفصولًا عن السياق العام للطروحات الَّتي انهالت على لبنان، فصارت الحكومة ميدانًا لتلقي شروط الحل الممكنة إسرائيليًّا وأميركيًّا، وبعضها وفق توصيف رئيسها فؤاد السنيورة «ما يُسمَّى نصائح تُوَجَّه إلينا من سفراء الدُّول الكبرى، وكذلك من سفراء الدُّول العربيَّة لما هو المفروض القيام به» (جلسة الحكومة في 13 تموز)، ونقلَ مناخات عن ترهيب أميركي إسرائيلي يتطلَّب الإسراع في التجاوب مع تلك النصائح «فالجو عند الإسرائيليين يساعدهم الأميركيون والأوروبيون بأنَّ لإسرائيل الحق بالدفاع عن النفس، وتحت هذه الحجج نتعرَّض للقصف يوميًّا قيامًا وقعودًا» (جلسة 16 تموز). ومن بين الطروحات المعروضة في هذا الجو استسلام المقاومة بدعوى أنَّها من مستلزمات الحل المقبول إسرائيليًّا وفق ما أفضت إليه الاتصالات الدوليَّة برئيس الحكومة، لأنَّ «شروط إسرائيل هي تسليم الجنديَّين، وانسحاب حزب اللَّه إلى ما فوق الليطاني» (مداخلة السنيورة في جلسة 18 تموز).
حاول حزب اللَّه شدَّ العزيمة السياسيَّة للحكومة بالتأكيد على صلابة الموقف الميداني. لأنَّ «المرحلة تحتاج إلى إدارة مرحلة صراع سياسي، والوضع الميداني لا يسمح لإسرائيل بوضع الشروط. هي لديها القدرة على القصف ولدينا القدرة أيضًا، عندنا خسائر وعندها خسائر، والحل بوقف إطلاق نار، ومن ثمَّ التبادل، ومن دون ذلك لا يحلم أحد بإطلاق الأسيرين» (مداخلة فنيش في جلسة مجلس الوزراء في 18 تموز).
لم تتوفَّر هذه الإرادة السياسيَّة، وحلَّت محلَّها لُغةُ تحطيم الإرادة الوطنيَّة، ومن مفرداتها في مناقشات الحكومة أنَّ: «هناك الدمار والانهيار الاقتصادي.. وحرق الموسم السياحي.. وتزايد أعداد القتلى والجرحى غير المحتمل..وما يجري انتحار جماعي.. وهناك الفوضى العارمة.. وتوريط البلد.. وإلى أين تقودنا المقاومة.. ووضعنا الكارثي.. وأرضنا المحروقة…إلخ» (من مداخلات وزراء فريق 14 آذار في جلسة الحكومة في 13 تموز).
لم يُكتفَ بهذا القدر من الضغط النفسي، بل تعدَّاه إلى رفض حتَّى التعزية بشهداء المقاومة، أو مجرد ذكر اسمها في بيانات الحكومة حين تناول الشهداء وتضحيات اللبنانيين. وجرى طرح ملف النازحين إلى بعض المناطق، «وما قد يثيره من فوضى، والمدى الزمني لبقائهم، وضرورة نشر الجيش في بيروت لطمأنة النَّاس، والاحتجاج على قبول هبة هي عبارة عن مستشفى ميداني في بيروت لأنَّ ذلك قد يثير القلق من وجوده، وكأنَّ العاصمة ستضرب، وإثارة موضوع نقل السّلاح للمقاومة»، وغيرها من المواضيع التي أثيرت بوجه ممثلي المقاومة في الحكومة في جلسة 22 تموز 2006.

تبدأ الأسئلة حول علاقة حزب الله بالدولة ولا تنتهي. من الأسئلة ما يذهب بعيداً، فيصل الى سؤال قدرة تركيبة لبنان التاريخية الهشة أصلاً على تحمل ظاهرة سياسية ـ دينية مثل حزب الله الذي يتجاوز بحضوره ونفوذه مساحة الدولة التي نشأ على أرضها، ليصبح مساهماً في صياغة خرائط الدول والنفوذ من حول لبنان؟
في كتاب «حزب الله والدولة في لبنان»، يطرح النائب د.حسن فضل الله إشكالية هذه العلاقة التاريخية منذ النشأة الأولى للحزب في مطلع الثمانينيات حتى الآن، لا بل يذهب أبعد من ذلك عندما يعود الى ثقافة المجتمع الذي ينتمي حزب الله اليه. الى السلوك التاريخي. الى الهويات الدينية والوطنية والقومية.
يقول فضل الله في مقدمة كتابه: «لقد تصدَّر مصطلح بناء الدولة الأدبيَّات السياسيَّة اللبنانيَّة منذ ولادة فكرتها على مساحة الوطن الواحد، واحتلَّ موقعًا مرموقًا في خطاب القوى المشكِّلة للمجتمع السياسي اللبناني، للإيحاء بموقفها الإيجابي من هذا البناء، وهو المصطلح الثابت في مسار الأزمات اللبنانيَّة المتتاليَّة، والَّذي يصبغ الحياة السياسيَّة بصبغته، وفي المقابل فإنَّ دلالته الأساسيَّة، هي أنَّ هذه الدولة لم يتم بناؤها بعد هذا الزمن المديد نسبيًا على ولادتها، وإلَّا لما احتاج اللبنانيون إلى البقاء في دائرة التفتيش عن أسُّس هذا البناء».
ويطرح بعد ذلك الأسئلة الآتية: لماذا لم يتم هذا البناء وما هي العوامل المعرقلة؟ وأين هو موقع حزب الله منها؟ وكيف تعامل مع هذه العوامل؟ كيف يمكن الجمع بين إيمان حزب الله بمفهوم الدولة؛ بما هي الكيان المسؤول عن إدارة البلد والدفاع عن سيادته، ووجود حزب مسلَّح يتولَّى بنفسه هذه المسؤوليَّة؟ ألا يُعدُّ هذا انتقاصًا من دور الدولة؟ بل كيف يمكن لمقاومة أن تحدِّد المدى الحيوي للأمن القومي للدولة، وتقوم بنفسها بالدفاع عنه خارج حدودها؟
يحدد الفصل الأوَّل من الكتاب معاني الوطن والدولة في الفهم الإسلامي الَّذي يستقي منه حزب الله ثقافته، ويعالج أيضاً موضوع العلاقة البينيَّة في مجتمع متنوِّع انطلاقًا من إيمان حزب الله بمبدأ ولاية الفقيه. ويستقرئ الفصل الثاني التاريخ الحديث للدولة في لبنان، ومدى انتظام نشأتها وعلاقتها بالجماعات التاريخيَّة المشكِّلة للشعب اللبناني. ويعالج الفصل الثالث إشكاليَّة تلك العلاقة وصولاً إلى نشأة حزب الله ورؤيته لدولة ما قبل «اتفاق الطائف» وما بعده. ويعالج الفصلان الرابع والخامس أداء الدولة نفسها في محطَّات تاريخيَّة كثيرة، ويتناول الفصل السادس حرب تموز 2006، ويقارب الفصل السابع والأخير المرحلة الَّتي تلت تلك الحرب، بخاصَّة بعد اندلاع الأزمة في سوريا ودور حزب الله فيها. وجاءت الخلاصات النهائيَّة لتقدِّم ما توصَّل إليه هذا الكتاب من نتائج.
اختارت «السفير» أن تنشر بالتنسيق مع «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر»، بعض فصول هذا الكتب، وبعضها يكشف للمرة الأوَّلى معطيات ترد في المتن حيناً، وفي الهوامش أحياناً، ومنها مستندات ووثائق ورسائل ومحاضر لقاءات كما هو الحال في الفصل الَّذي يتناول حرب تموز 2006.
ويروي الكتاب، على سبيل المثال لا الحصر، كيف توجَّه الحاج عماد مغنية، وكان القائد العسكري للمقاومة، مع قيادات في المقاومة، إلى الشريط الحدودي للإشراف على حسن سير عمليَّة التحرير (2000)، وكيف تولّى بنفسه «تطبيق السياسات الَّتي وُضعت لحماية القرى، وتثبيت العيش الواحد، وكان جنود الاحتلال لا يزالون في مواقعهم. وصل الحاج مغنية وقيادات الصف الأوَّل في المقاومة إلى قرب بلاط على الحدود، وكانت نيّتهم الصعود، ثمَّ عدلوا عن ذلك لتأخُّر الوقت» (…).
في الجزء الأول، تنشر «السفير» بعض ما تضمنه الفصل الخامس من تأريخ للمرحلة اللبنانية الممتدة من مرحلة ما بعد احتلال العراق.. وصولاً الى جلسات الحوار الوطني عشية حرب تموز 2006.
«وجدت المقاومة نفسها محاصرة بحجم تحدّيات محليَّة وخارجيَّة، فقد صار الجيش الأميركي على حدود سورية (2003)، وكان على رأس جدول الأعمال الأميركي، في مرحلة ما بعد غزو العراق، مطلب واحد هو نزع سلاح المقاومة. وفي المحيط الإقليمي بدأ الداء المذهبي يتفشَّى في المنطقة العربيَّة، بعدما نجحت سياسة التفرقة الأميركيَّة في زرع بذوره، وتحويل التحريض إلى أحد أخطر الأسلحة المهدّدة لمشروع المقاومة ليس في لبنان فحسب، وإنَّما على امتداد المنطقة المحيطة به.
الحلول المذكورة هي في حوار يضع أُسُس الشراكة بين الفئات اللبنانيَّة. فتحت المقاومة أبوابها للقاءات مع هذه الفئات، فحضر الفريق المسيحي المعارض لسورية بهواجسه، وطرحها على الأمين العام لحزب اللَّه السيد حسن نصر اللَّه، وسمع هواجس مماثلة حيال مرحلة سيادة خطاب التعصُّب والانزواء، وما يمكن أن يتركه من نتائج سلبيَّة على التنوُّع اللبناني، «فحينها لن يستطيع المسيحيون أن يذهبوا إلى كنائسهم والمسلمون إلى مساجدهم وحسينياتهم، لأنَّهم سيكونون عرضة للاستهداف من قبل أولئك الَّذين يكفّرون من لا يخضع لأفكارهم» وضرورة الخروج من هذه الحال إلى صياغة علاقة صحيحة بين اللبنانيين، تستند إلى تفاهم وطني عام يحمي التنوُّع والوحدة والاستقلال (بدأ هذا الحوار بلقاءات عقدها السيد نصرالله مع وفد من لقاء قرنة شهوان طلب حينها إبقاء اللقاءات سرية وناقش فكرة التفاوض حول حدود العلاقة مع سورية).
استُتبع هذا الحوار، بمحاولة وضع ركيزة صلبة لأيّ تفاهم وطني، وذلك عبر حوار استراتيجي جمع السيد نصراللَّه بالرئيس رفيق الحريري أواخر العام 2004. وكان عنوانه عقد شراكة كاملة، تُفضي إلى إنتاج سلطة وطنيَّة، تتوافر فيها عوامل الاستقرار الداخلي.
أبدى الحريري رغبته الشديدة في عقد شراكة مع حزب اللَّه، ووجد المدخل لهذه الشراكة تحييد المقاومة بالكامل عن أي نقاش من خلال تثبيت مجموعة أُسس منها:

[ احتفاظ المقاومة بقوَّتها، سلاحًا وتنظيمًا حتَّى إنجاز تسوية للصراع مع إسرائيل، وحينها إمَّا توافق المقاومة على صيغة حل لوضعها، وإمَّا يتخلَّى عن مسؤولياته الرسميَّة، ولا يمسّ هذه المقاومة.
[ اتفاق شامل على تركيبة السُّلطة بما فيها المجلس النيابي والحكومة ورئاسة الجمهوريَّة.
[ شراكة كاملة مع حزب اللَّه في هذه السُّلطة بتمثيل حقيقي ووازن.

كان باعتقاد الحريري أنَّه يمكن الانطلاق من هذه الشراكة للمواءمة بين إنتاج سلطة لبنانيَّة يدير شؤونها، وبقاء المقاومة على سلاحها، لذلك حاول طمأنة المقاومة، كمدخل ضروري لإعادة بناء تلك السُّلطة.
عبَّر الحريري في سياق هذه الحوارات عن رؤيته للأوزان والأحجام اللبنانيَّة، والَّتي صارت في وضعيَّة تساعده على إنتاج السُّلطة بمعايير جديدة، لكن شرط التوافق مع حزب اللَّه. «لأنَّ هناك تقلُّصًا للحضور المسيحي، والعلاقة الجيدة مع وليد جنبلاط تساعد على استيعابه، أمَّا سورية فتنسحب إلى البقاع، ويمكن تأمين مصالحها ولا حاجة لها بالدخول في التفاصيل اللبنانيَّة، وبالنسبة إلى الدور الشيعي يُمكن لحزب اللَّه أن يأخذه بالكامل».
يذكر أن رفيق الحريري قدم أسماء لرئاسة المجلس النيابي صنفها بأنها «مستقلة» وبعد رفض السيد نصرالله عرض الحريري أن يتولى حزب الله تقديم مرشح غير الرئيس نبيه بري أو ترشيح أحد أعضاء كتلته لرئاسة المجلس النيابي، وعندما أصر السيد نصرالله على رفض أي طرح يمس بالرئيس بري رد الحريري: «لا مانع لديّ حتى أن تسمّي النائب علي عمار لرئاسة المجلس»، وكان موقف السيد نصرالله دائماً رفض المسّ بموقع الرئيس بري.

المقاومة بين نارين

حدَّد الحوار على مدى أكثر من خمسة أشهر مرتكزات العلاقة وأُسُس الشراكة، وبلغ مستوىً متقدّمًا إلى حدود البحث في الدور الإقليمي للبنان «انطلاقًا من موقع الرجلين على خارطة المنطقة، وعلاقاتهما الإقليميَّة والدوليَّة، وما يمكن له من تأدية دور فعَّال خارج إطار الحدود اللبنانيَّة»، وفق ما كان يطمح الحريري. وكان الحوار يضع الإطار العام للمرحلة المستقبليَّة، ويحتاج إلى بعض الوقت لبلورة الصيغ المتَّفق عليها، ولكنَّ الحريري اغتيل قبل أن تُستكمل جلسات الحوار، وتصل إلى عقد اتفاق شامل.
حاولت المقاومة تلافي الانقسام الداخلي، وإبعاد الاغتيال عن الاستثمار السياسي، ولكنَّ الإرادات الدوليَّة كانت الأكثر تأثيرًا على الإرادات المحليَّة، فجرى الانسياق وراء حملة تحريض ضدَّ سوريا ووجودها في لبنان. ولم تسلم المقاومة وجمهورها من هذا التحريض، فوجدت نفسها بين نارين: نار تستهدف حليفها الاستراتيجي، ونار مذهبيَّة يُسعّر أوارها خطاب تحريضي مذهبي يهدِّد البنيان اللبناني بأكمله.
سارت المقاومة بين خطَّي النَّار، فهي تريد حماية حليفها، أو على الأقل التخفيف من خسائره، وعدم إخراجه من لبنان بطريقة لا تليق بالتضحيات الَّتي قدَّمها لمساعدته، وبالمقابل أرادت منع أي صدام مذهبي حرصًا على وحدة المسلمين، ووحدة بلدها. كان همُّ المقاومة حماية مشروعها الاستراتيجي في مواجهة إسرائيل، والعمل على منع انزلاق بلدها إلى فتنة داخليَّة، وفي المقابل كان همُّ قوى دوليَّة ومحليَّة كيفيَّة الاستيلاء على السُّلطة في بيروت بعد إخراج سوريا من لبنان.
وجد الرئيس السوري بشار الأسد نفسه محاصرًا بضغوط دوليَّة وبسيل الاتهامات، فاتَّخذ قرار الانسحاب من لبنان، ولم يوافق على عروض محليَّة وإقليميَّة بالانسحاب إلى البقاع، كما ينصُّ اتفاق الطائف، وأصرَّ على الخروج الكامل من لبنان، تاركًا هذا البلد يتخبَّط بخلافاته وصراعاته الَّتي لم تكن سورية بعيدة عن تفاصيلها في السابق.

السُّلطة مقابل المقاومة

أدَّى الخروج السوري من لبنان (ربيع 2005)، والدخول الدَّولي المباشر إلى تبدُّل في التوازنات المحليَّة، وإلى تصاعد خطاب مذهبي وطائفي، لم تسلم منه المقاومة وجمهورها، فحاولت تخطِّيه بالتخفيف من الخسائر ما أمكن، وإن اضطرَّها ذلك إلى تقديم تنازلات لحساب توافقات محليَّة تحد من تغلغل الخطاب المذهبي في البيئات الشعبيَّة، وتسهم في تبريد مناخَي التوتُّر والتعصُّب الطائفيين اللَّذين أخذا بالانتشار على مساحة الجغرافيا اللبنانيَّة.
دخل لبنان في دائرة التهديد والفرص في آن واحد.
التهديد تمظهر بعاملين:
– حجم التدخُّل الدولي.
– حدَّة الانقسام السياسي ولاحقًا الشعبي.
أمَّا الفرص فظهرت من خلال توفُّر الإمكانات المحليَّة لصوْغ العلاقات بين اللبنانيين على أُسُس جديدة من دون رعاية أو وصاية خارجيَّة، وسمحت هذه الفرص بإمكانيَّة تلاقٍ لبناني ـ لبناني لبناء دولة على قواعد وطنيَّة عنوانها الجامع، أولويَّة المصلحة اللبنانيَّة بعيدًا عن الارتهان إلى المصالح الخارجيَّة.
ضاعت تباعًا تلك الفرص لبناء سلطة وطنيَّة تدير الدَّولة بمعزل عن المؤثّرات الخارجيَّة، وكانت تلك المؤثّرات أقوى من خيارات القوى المحليَّة، فقد انكشفت الدَّولة أمام نهم الدُّول الآتية بمشاريعها وأهدافها المرتبطة بمصالحها في المنطقة، ومن بينها استرضاء إسرائيل بطروحات تتعلَّق بالمقاومة وسلاحها.
احتلَّت دولتان المسرح المحلي في ظلّ الغياب السوري، وهما الولايات المتَّحدة الأميركيَّة وفرنسا، ودخلت السعوديَّة كلاعب مباشر، ووجدت تلك الدُّول حضنًا محليًّا سريع الانعطاف نحو تقبُّل فكرة الانتقال من سلطة الرعاية السوريَّة إلى سلطة الدُّول بمسمَّى أقل حرجًا وهو سلطة «المجتمع الدولي».
كانت الخطوة الأساسيَّة المطلوبة لفرض السيطرة الجديدة على الدَّولة والوطن هي التخلُّص من سلاح المقاومة، ولأنَّ مصادمته كانت مكلفة في مرحلة هضم نتائج إخراج سوريا، جرى طرح مقايضته بالشراكة في السُّلطة.
تبلورت الفكرة في دوائر القرار الفرنسي، وأبلغها الرئيس الفرنسي جاك شيراك للرئيس الإيراني السيد محمد خاتمي، وتضمَّنت مقايضة بين السُّلطة والسّلاح. وبحسب شيراك: «فرنسا والولايات المتَّحدة تريدان نزع سلاح حزب اللَّه، ولكنْ هناك اختلاف في الأسلوب، فالفرق مع أميركا هو في الأسلوب، الأميركيون يفكّرون بعضلاتهم، بينما فرنسا تفكّر بعقلها، ولذلك رأينا أن نفتح أبواب السُّلطة أمام حزب اللَّه، فإذا ذاق طعمها، فسيشعر مع الوقت أنَّ السّلاح عبء عليه، وهو سيقول في النهاية تعالوا خذوا السّلاح».

إغراءات جديدة للمقاومة

كان المدخل لهذا الإغراء تشجيع الشراكة في الانتخابات وإجراءها في موعدها، ولأجل ذلك حمل سعد الحريري وريث الحلف مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك عرض الشراكة في السُّلطة في مواقعها المتنوّعة. «أخذ الحصَّة الوزاريَّة والإداريَّة الكاملة، وإعادة النظر في رئاسة مجلس النواب، واختيار أي اسم من حزب اللَّه، وإذا كان هناك مانع شرعي (دِيني) يتم اختيار اسم آخر من خارج كتلته».
وحين رفض السيد نصر اللَّه العرض، أثار الحريري إشكاليَّة مواقف كلٍّ من الولايات المتَّحدة وفرنسا والسعوديَّة ومصر، «ماذا سأقول لهم في حال الرفض، فهم يريدون التغيير في رئاسة المجلس ولا يمانعون أبدًا تولِّي أحد من حزب اللَّه هذه الرئاسة»، لكنَّ الموقف الحاسم الَّذي سمعه الحريري هو «أنَّ الرئيس بري هو مرشَّحنا الوحيد، ونرفض أي مسٍّ بموقع رئيس المجلس».
سبق لحزب اللَّه أن رفض مثل هذه العروض الإغرائيَّة في ذروة انتصار المقاومة في العام 2000. ففي ظلّ الوجود السوري في لبنان، قُدّمت له مغريات ماليَّة وسياسيَّة كبيرة، بما فيها الدور المركزي في السُّلطة مع الاحتفاظ بسلاحه، شرط تخليه عن مشروعه المقاوم، وتقديم ضمانات أمنيَّة لإسرائيل بطريقة غير مباشرة. وجاءت هذه العروض من مصدر واحد هو الولايات المتَّحدة الأميركيَّة.
حمل العرض الأوَّل مسؤول ياباني، وفيه استعداد لتمويل مشاريع بنيويَّة بمليارات الدولارات في مناطق انتشار حزب اللَّه، وتقديم مساعدات ماليَّة سخيَّة لبيئته الشعبيَّة، وتأدية الحزب لدور سياسي محوري في لبنان، ورفعه عن لائحة الإرهاب الأميركيَّة، وفتح الأبواب الغربيَّة أمامه.
العرض الثَّاني جاء مواربةً من نائب الرئيس الأميركي حينها ديك تشيني عبر أحد أصدقائه الَّذي عرض تقديمات ماليَّة سخيَّة ودورًا مركزيًّا في السُّلطة.
كان الجواب حينها أنَّ المقاومة ليست للمتاجرة، ولا هي وسيلة لتحقيق مكاسب في السُّلطة، إنَّما لها دور مركزي في تحرير لبنان، والدفاع عنه وحمايته من العدوان الإسرائيلي. وتكرَّر الجواب نفسه في العام 2005، وبصيغة حاسمة: «حزب اللَّه لن يتخلَّى عن المقاومة مهما كانت العروض والمغريات»(…).

 

السابق
مقهى فرنسي يطرد المحجبات
التالي
لماذا استبدال خطر السلاح النووي الاسرائيلي القائم بخطر نووي إيراني محتمل؟