القتل بالمنشار أو السكين

منذ أيام خرج الى الصالات الأميركية والأوروبية شريط “مجزرة بالمنشار”، الذي أخرجه الأميركي توب هوبر عام 1974، بعدما رُمّم، بحيث يكون ملائماً لألوان الشاشات الجديدة وتطوراتها التقنية الدقيقة. الفيلم من قمم العنف العاري الصريح، يروي قصة أصدقاء في نزهة يتعرّضون لهوس قاتل متسلسل، يقضي عليهم الواحد تلو الآخر بواسطة البلطة، وينهي مجزرته بنشر الضحية الأخيرة بواسطة منشار خشب، تُنقل مشاهده التفصيلية الحية على الشاشة، بل يشغل المنشار بصوته الجهوري الموتِّر، “لكي يكون وقع الجريمة أشد هولاً على المشاهد”، كما قال مخرجه وقتها عندما سئل عن سبب تفضيله لصوت المنشار بدل صوت موسيقى تصويرية، أقل منه “واقعية”؛ وكان المخرج أعلن قبل ذلك، ولمزيد من “الواقعية” الإجرامية، بأن الجثث التي في الشريط هي جثث حقيقية، “استوردت من الهند”… ومن نوادر تصوير هذا الشريط ان إحدى الممثلات التي لعبت دور الضحية أصيبت في نهايته بانهيار عصبي… والفيلم لدى خروجه مُنِع في عدد من البلدان، ولكنه طبع العديد من المشاهدين بعنفه السافر والمرتاح، بواقعيته ورمزيته. فكان فاتحة عهد أفلام الرعب والقتل التي لم تنته فصولها.. وها هو الآن يعود محمولاً على أسطورته، غير ممنوع في البلدان التي حظرته. فيلم “طبيعي” يحاكي أعنف العاب الفيديو، تلك التي تعدك بأن الدماء سوف تنبعث من شاشتك لحظة تنتصر على عدوك المفترض، وتلطخ عينيك بالأحمر…

هل هي صدفة أم منافسة مع شرائط “داعش” الأخيرة، تلك التي تصور الرهائن الغربيين، راكعين بالبرتقالي، وخلفهم مقنّع حاملاً السكين يروي أسباب ذبحه لهذه الرهينة، بانكليزية ممتازة، ثم يقوم بجريمته على أشد الوجوه وضوحاً وسكينة، وفي ديكور لاحظ معظم المراقبين مدى توسله للفنون الهوليودية، بمناخاتها وتشويقها وموقع أبطالها في إطارها وموسيقاها التصويرية…

هل شعرت هوليود بأن “داعش” سوف يتفوق عليها بجذبه لنظر الباحث عن لذة العنف، فأخرجت فيلمها المُرمّم بثقة من يعلم بأنه سيلاقي رواجاً؟ أم إن الموضوع هي محاكاة ضمنية لعنف “داعش”، والتأكيد على انه ليس وحده في ميدان القتل؟ أم أن أميركا، قائدة الحرب على الإرهاب، بطلعاتها الجوية “النظيفة” ضد “داعش” تحتاج الى مؤازرة سينمائية، تُجْفل بواسطتها المخيلات وتستبق هزيمة عدوها، بأن تتفوق عليه في البربرية، ولو الإفتراضية، وفي القدرة الفنية على نقل هذه البربرية إلى الشاشة وإقناع العقول بجماليتها؟

كل هذه البواعث ممكنة، بمفردها، ومجتمعة. فأن تشاهد، بعد عمليات الذبح، عمليات نشر أجسام البشر وهم أحياء، فهذه من الأمور التي تتضافر عادة عوامل عديدة لتحققها. وقد تتوج الأسباب الوجيهة التي جعلت خروج “مجزرة بالمنشار” إلى صالات السينما، بموازاة خروج شريط ذبح الرهائن الغربيين على يد “داعش” على شرائط “اليوتيوب”. هل هذا يعني بأن هوليود والمشاهدين أصيبوا بمرض “داعش”، فرأوا في إنزال الفيلم تعويضاً نفسياً عن عدم خوضهم المعارك الحقيقية؟ أم إن “داعش” أصلا مصاب بمرض البربرية، وهو بذلك إبن عصره؟ وهل نجد في هذه التساؤلات تفسيراً فرعياً للبواعث التي تحدو بجهاديين غربيين، متوازنين، متعلمين، واعدين بمستقبلهم المهني، أبناء عائلات ميسورة ومستقرة… يلوذون الى “داعش” بصفته يحقّق على الأرض ما يرونه على شاشتهم وألعابهم الإفتراضية من وقائع دموية يومية؟

هذا التفاعل غير المباشر بين الدواعش الهوليودية وبين “داعش” الحقيقي، يلقي أضواء أخرى على بواعث هذا الأخير: هذا التنظيم يريدنا أن نعود الى قوانين جاهلية بائتة، هي تصوره لما كانت عليه العصور المحمدية. ولكنه أيضا تنظيم معاصر من حيث التقنيات العالية والجمالية المأتمية التي يسخرها من أجل هذه العودة، تتفوق على العنف الهوليودي الذي انتاب الفن السابع بحمى متسارعة، هي ترجمة لروح هذا العصر: عصر العنف اللامتناهي.

النجاح الذي يلاقيه فيلم “مجزرة بالمنشار” يخاطب العصر بجمعه بين التكنولوجيا الرفيعة والتعطش الى رؤية الدماء السائلة الحقيقية؛ و”داعش” يخاطب هذه الروح نفسها بجمعه بين الإثنين، واقعياً؛ مع فارق ضئيل يدعك أمام الخيار بين أن تُقتل بالمنشار أو بالسكين. إنها روح العصر الما بعد حداثي.

السابق
زهرا يتوعّد الوزير باسيل: «سأريه ما يعجب خاطره»
التالي
 سقوط جمال معروف