النجف، فاتيكان الشيعة

في المدينة العراقية المقدسة، يعتبرون رسمياً أن السياسة مدنّسة. لكن هذا لا يمنع المشايخ والأئمة من مواكبة الأحداث عن كثب في المنطقة. التقى الكاتب الألماني نافيد كرماني عدداً كبيراً منهم، بينهم آية الله علي السيستاني.

لعل المقبرة الموجودة في النجف هي الوحيدة في العالم التي تحتل المكان الأقرب إلى قلب المدينة. يكفي أن تخرج من السوق المغلقة التي تعبر المدينة لتجد نفسك وسط المدافن. وهي متلاصقة جداً إلى درجة أننا بالكاد نستطيع أن نحشر قدمنا بينها. يمتد مشهد الحجارة البنّية على مساحة واسعة جداً وعلينا أن نركب السيارة للانتقال من مدفن إلى آخر.
تطبّق النجف مبدأ التصميم المدني معكوساً، ففي العالم كلّه، المدينة في الوسط والأموات عند الأطراف، أما هنا فكل الدروب تقود إلى ضريح الإمام علي ومدافن ملايين الأشخاص الذين يرقدون بجانبه. المدينة في ذاتها عارية وحزينة، وكأنه لا يجب أن يتنافس أي بريق أرضي مع القبّة المذهّبة التي نراها عن مسافة 75 كيلومتراً من جميع الجهات في الصحراء، عندما تكون الرؤية جيدة.

تتمحور المدينة حول المسجد – الضريح: تبدو الباحة الداخلية أشبه بحديقة في الجنّة مع جدرانها المغطّاة بكاملها بالفسيفساء ذات الألوان الزرقاء والصفراء. تولّد مراوح ضخمة نسيماً عليلاً وترشّ ماء الورد في الهواء. ويصدح في أرجاء عدّة من المكان لحنٌ حزين يترك وقعاً في النفوس. تتمتم العائلات دعاء إيقاعياً طويلاً خلف النعوش المصنوعة من الخشب المعاكس. وبعد الانتهاء من صلاة الموتى، يحملون النعش على أكتافهم ويدخلون المسجد.

تُغطّى بعض النعوش بالعلَم العراقي، في إشارة إلى أن الميت قضى في القتال ضد السنّة في تنظيم “الدولة الإسلامية”. وتتخذ عبارة “لا إله إلا الله” التي يردّدها السائرون في الموكب الجنائزي بوتيرة منتظمة، نبرةً حربية. يجب أن يكون المرء قد شعر بهذا الحضور الطاغي للموت كي يفهم الطريقة التي تنظر بها الديانة الشيعية إلى العالم. فشيعة علي هي دين التفجّع والتوبة؛ وحتى مرحلة متقدّمة في القرن العشرين، كانت دين الاستبطان والانعزال عن العالم. قُتِل أئمتها الاثنا عشر، خلفاء محمد المباشرون، بطريقة وحشية وغادِرة ومخزية – ليس على أيدي الكفّار إنما على أيدي المسلمين.

هذه الخيانة تجاه العائلة ورسالة النبي لا تنفك تتكرّر منذ 1400 عام بالنسبة إلى الشيعة. سيطرة السنّة التي عانوا في ظلها على امتداد قرون في العراق، ومئات آلاف الشيعة – بينهم 9000 رجل دين – الذين قتلهم الديكتاتور صدام حسين اعتباراً من عام 1991، وتقدُّم الأفكار الوهّابية [عقيدة سنّية متشدّدة جداً في محافظتها تسيطر في السعودية] في مجمل العالم الإسلامي، والآن تصرّفات “الدولة الإسلامية”: يندرج كل تهديد جديد في هذا الإطار من الخيانة الداخلية. سألت حارساً عجوزاً حليق الرأس يرتدي زياً منكمشاً بعد صلاة الجمعة: “هل تخافون على الضريح؟” فأجاب بحزم: “لا، لن تتوغّل الدولة الإسلامية إلى هذا العمق في الأراضي الشيعية”. وأضاف أن الحياة أصبحت أفضل منذ سقوط صدام حسين. يشعر الناس بأنهم محرَّرون. في الماضي، لم يكن يشهد المسجد صلاةً كما اليوم بمشاركة آلاف المؤمنين. وكانت السلطات تعتقل مواطنين شيعة كل يوم جمعة. سألته:

“-هل كان تدخّل الأميركيين أمراً جيداً إذاً؟
– أجل
– هل أنتم ممتنّون للأميركيين؟
– لم يفعلوا هذا من أجلنا”.

من شأن غياب الحجّاج أن يسبّب مشكلة لمدينة النجف. أصبحت المساجد والطرقات والفنادق ومتاجر التذكارات أكثر فراغاً مما كانت عليه قبل اجتياح “الدولة الإسلامية”، فقد أوقفت إيران [البلد الشيعي النافذ في الجوار] رحلات الحج لأسباب أمنية. تحوّلت المدينة القديمة منطقة مخصّصة حصراً للمشاة خوفاً من الهجمات. شعرت وكأنني في فاتيكان للشيعة: في بعض الأماكن، لا نلتقي سوى بأعضاء المعاهد الدينية المنتشرة بكثرة في المدينة. حتى ولو كان هؤلاء يرتدون زياً مشابهاً لزي نظرائهم في إيران، أي رداء طويلاً ومشلحاً كبيراً على الكتفَين وعمامة سوداء أو بيضاء، بدوا لي مختلفين جداً، فهم أكثر وثوقاً بأنفسهم إنما أيضاً أكثر استرخاء وودّاً. يتبادلون أطراف الحديث مع التجّار، ويسحبون أياديهم بعيداً من المؤمنين الذين ينحنون لتقبيلها، ويربّتون على رؤوس الأولاد.

في المدن الإيرانية الكبرى، يجد الملالي صعوبة في توقيف سيارة أجرة في الشارع لأنهم يثيرون الكثير من الريبة، لا بل الازدراء. أما هنا، في المركز القديم لرجال الدين الشيعة، فهم محط ثقة واضحة. ويضحكون، وهو ما لم أرَه عملياً في إيران. في مساء اليوم الأول، زرت الشيخ نزيه محيي الدين، عضو المرجعية أي الهيئة التي تضم رجال الدين الأربعة الكبار في النجف برئاسة آية الله العظمى علي السيستاني. لا يدلي هؤلاء الأئمة بتصاريح علنية، والشيخ محيي الدين هو بمثابة المتحدّث غير الرسمي باسم الهيئة. جلسنا على مقاعد، مع العلم بأنه من النادر وجود مثل هذا الأثاث في منزل رجل دين. طوال النقاش، بدا واضحاً أنه يستمتع كثيراً بمباراة كرة الطاولة الكلامية بيننا. اتّكأ بلامبالاة على كوعه الأيسر، وراح يحرّك يده اليمنى مع كل تصريح يقوله، وكأنه يسدّد ضربة كرة. وكانت حركته قوية جداً إلى درجة أن ذراع النظارة التي كان يحملها بين ثلاثة أصابع كانت تنفتح باستمرار. عندما قلت له إنه “لولا الدعم من السكّان المحليين لما تمكّن عشرة آلاف أو عشرون ألف إرهابي من السيطرة على منطقة بهذا الحجم”، أجاب أن المسألة “خطيرة”. سألته “لماذا؟”

– “كل ما يمكنني قوله لك هو أنه لو لم تحصل الدولة الإسلامية على الدعم من عناصر في الحكومة والجيش، لما تمكّنت أبداً من السيطرة على مدينة مثل الموصل. تملك المرجعية وثائق جمعتها أجهزة الاستخبارات تثبت تورُّط الحكومة. نجحت الدولة الإسلامية في السيطرة على المدينة من دون إطلاق رصاصة واحدة. لم يحدث الأمر بالصدفة.

– يُفهَم من كلامكم أن الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي شجّعت تقدُّم الدولة الإسلامية. لكن هذه الحكومة كانت شيعية، كيف يُعقَل ذلك؟

– لم تكن حكومة شيعية. كل ما كان يهمّ المالكي هو السلطة. من كان ليُفيد من غرق العراق في الفوضى؟ رئيس الحكومة لأنه كان ليعلن حال الطوارئ. أراد أن يبقى في السلطة، أراد أن يصبح صدّاماً جديداً. بسبب غطرسته التي لا حدود لها، دمّر العراق كما دمّر هتلر ألمانيا. لو لم تتمكّن المرجعية بشق النفس من تنحية المالكي [في أيلول الماضي]، لاندلعت حرب أهلية.
– المرجعية هي التي تمكّنت من تنحية المالكي؟
– نعم، أرسلنا وفداً إلى طهران، فكان أن وافقت على التخلّي عنه.
– لكن هل كانت إيران مضلَّلة إلى هذه الدرجة بدعمه طوال تلك الفترة؟
– تسهر إيران على مصالحها، مثل أية دولة أخرى. لا علاقة لذلك بالطائفة الشيعية. ينأى الشيعة بأنفسهم عن السياسة”.

لا يتدخّل رجال الدين في السياسة خشية أن يلوّثوا أيديهم بها، لطالما كان هذا هو المبدأ الذي يعمل به أتباع مذهب الاستكانة. وقد استنتجتُ أن الشيخ نزيه يعتبر السياسة برمّتها مناهضة للشيعة. لطالما كان رجال الدين مسكونين بهاجس الحفاظ على نقائهم.

يتجنّبون الانتقادات عبر الإعلان بأنهم لا يتمتّعون بالكفاءات اللازمة. والهيبة التي يتمتّعون بها، وإن كانت تمثّل سلطة كبيرة، لا يجب ممارستها إلا في حال الطوارئ. مهمة الفقهاء، كما في الديانة المسيحية، هي أن يقدّموا للناس نموذجاً في الإحسان والتواضع وحب القريب. لم أبقَ فترة كافية في النجف للتأكّد مما إذا كان رجال الدين يتمتّعون بهذه الخصال في الحياة الواقعية. في إيران، وحدهم أئمة المعارضة يعتبرون أنه يجب أن يبقى الدين بمعزل عن الدولة. من جهة أخرى، أعلم أن مثقّفي بغداد العلمانيين، لا سيما أولئك الموجودين في المنفى، يتّهمون رجال الدين في الأجزاء الأخرى من البلاد، بأن السبب الوحيد لمطالبتهم بفصل الدين عن الدولة هو أنهم يشكّلون دولة داخل الدولة.

 

السابق
«القاعدة» و«داعش» أصبحتا أكبر حزبَيْن شعبيّيْن عربيّيْن؟
التالي
مئات الآلاف يفرون من المعارك في عين العرب إلى الأراضي التركية