إلى سيد السماحة

هلاّ أعرْتني عمامتك السوداء أُضمدّ بها حزني ووجداني؟…

أيسمح لي مصطفى والإخوة والأهل بأن أغمس سنّ قلمك في محبرة العين لأكتب عنك بمداد الدمع ورواسب النور الباقي في البؤبؤ؟…
ها هي حسينيات العزاء تنتشر على صفحات صحافتك التي خلت من دفئك، وتزدحم بها موجات الأثير الحزينة المنكسرة على أزيز أوراق النعيّ…
كيف لهذه السطور أن تنال شرعية الولادة إن لم تكن ممهورة بأختام مأمور السطور؟
لمن أوجهها إذاً يا مأمور السطور والنفوس؟
أيها الممتلئ نعمة وبشاشة، وحبّاً للدعابة حتى وأنت في آخر لحظات العافية…
أزحتَ عن فمك قناع الأوكسيجين، وقلتَ لي ممازحاً: “أريد أن أكون وزيراً، وابتسمتَ. فأجبتك: بل أنت سيد الوزراء… وبكيْتُ.
قدمت لمجموعتي الشعرية الأخيرة، فانزوى الشعر خجلاً أمام أنوار نثرك الشفيف، وجعلت عنوان المقدمة “معالي الشاعر” ولم أكن وقتذاك وزيراً، فظن أكثرهم أنك من أهل النبوءة، وقلت لي إن أفواج الكتبة تتزاحم على سماعة هاتفك التماساً لرؤية تسر قلوبهم… وضحكنا كثيراً.
وقلت لي في مقدمتك تلك: “ليكتب رشيد درباس ألف ديوان، وأنا مستعدّ لتقديمها كلّها… لعلّي أعبّر عن عشقي لطرابلس وقلقي عليها أو علينا فيها، من دون أن أتخلى عن أملي بأن تبقى فيحاء، تتخلل نسمة الهواء السارح بين ذاكرتها وحلمها… ورائحة الصابون وزهر الليمون ورائحة البحر، ورائحة الروح الآتية من التكايا… ورائحة ماء الزهر من حديقتها في القلمون…”.
وقلت أيضاً: “إن والدك قبّلك لأنه لمس إبداعاً في كذبة ارتكبتها عندما كنت صغيراً، فالفن كذب حميد، ولهذا فإنك تطرب حتى الأظافر إذا اتهمت بتهمة الشعر الشريفة”.
إنك بعاطفة صادقة حميدة لا كذب فيها، أبدعت فنون عشق لأبي عليّ من ثلجه الى ليمونه، ومن واديه المقدس الى بساتين خيره وعطره، من قلانسه الى عمائمه، من صليبه حتى الأهلة، من أدياره إلى تكاياه، فاختلط عليك الآذان بأنات النواقيس.
أما أنا فاستشهدتُ يوم توقيع كتابك بقول لهيرودوت: “في قاع النيل توجد شمعة تطفو إلى سطحه كلما حل الظلام…”. وخاطبتك أيها الشاعر السيد، إنك في هذا الظلام، شمعة القاع وشمعة الذرى.
يا صديق الشعر والنثر والبر والبحر…
يوم القانون الارثوذكسي قلتُ: “لقد ربيت في مدرسة مار الياس، وتعلمت المسيحية من فم المطران خضر، وعلم النفس من الدكتور كوستي بندلي، والفلسفة الإسلامية من الدكتور عبد الرحمن مرحبا، وتمتعت بالأدب العربي من كتب مارون عبود، ولا أزال أحاول أن أكون مقلداً لقلم السيد هاني فحص، ففي أي صندوق سأضع ورقتي؟”.
الآن أضع ورقتي في صندوق السيد هاني المليء بأوراق الذهب، كأنني نقطة في مصب، أو درهم في قرض حسن…
أيها الساكن في النهج طويلاً، الرحالة في كل الأماكن تاجر طيوب يوزعها من قمقم لهاته بلاغة تعطّر الأسماعَ بشذا العترة النبوية.
أيها الكوكب الدري المستضيء بالنور، الماشي على لمعانه، المتدثر بسطوعه، المعلّم أن الحياة إن لم تكن نوراً على نور فليست سوى حفنة موت.
أيها الروح الذي استردّته سماؤه، والأرض ما زالت بحاجة إليه…
أيها الماء الذي شربه ترابه…
ها هي الغيمة تستردّ بك قرضها الحسن…

(رشيد درباس) وزير الشؤون الاجتماعية

السابق
حسن فضل الله:الجيش يحتاج إلى قرار حازم وحاسم من الدولة
التالي
رئيس الوزراء العراقي حيدرالعبادي يعزي لبنان والعراق بوفاة المفكر السيد هاني فحص