نبع الحاصباني يلفظ مياهه الأخيرة

يعود مزارع حاصباني كهل من عائلة الحمرا، بذاكرته إلى شهر تشرين الأول 1930، ليقول: «في تلك الفترة، حصل ما لم يكن بالحسبان، فمياه نبع الحاصباني، وقفت في التنور». تلك العبارة، وحسب لغة مزارعي المنطقة، تعني أن مياه النبع انحصرت في مساحة صغيرة، أي في نقطة انبلاج المياه من باطن الأرض، من دون أن تسجل جرياناً في مجراها. فكانت كارثة زراعية في حوضه لعامين، بسبب النضوب التام، تكبدت خلاله المنطقة خسائر فادحة.

مشهد ذلك العام المرير من نضوب الحاصباني، في طريقه ليتكرر مرة ثانية مع نهاية الشهر الجاري، بعدما وصلت مياه النبع إلى أدنى منسوب لها، بحيث تدنت إلى حدود الـ0،13 متراً مكعباً في الثانية، من أصل 15 متراً مكعباً في الثانية، كمعدل وسطي. فاختفت المياه عن شلالاته، وما بقي منها، يتسرب عبر قناة الري الرئيسة، والتي لم تعد تروي سوى مساحة قليلة من البساتين والمزروعات القريبة منها. نضوب المياه بشكل كامل، يتوقع له مع نهاية الشهر الحالي على أبعد تقدير، ليحل الجفاف في حوض النهر. ويتحول مجراه إلى مساحة قاحلة، لا حياة فيها إلا للجرذان والأفاعي وأنواع مختلفة من الزواحف والحشرات.
يقف أحمد إبراهيم جابر أحد المستثمرين قرب شلالات الحاصباني مذهولاً، وهو ينظر بحسرة إلى الشلالات ليقول: «لم نتوقع يوماً أن تفقد هذه الشلالات مياهها، إنها عروس الحوض التي نزعت عنها رداءها السحري، فما حصل غضب رباني حقاً، إنها لحظات سوء مغايرة لتاريخ هذه المنطقة الغنية بطبيعتها الخلابة». يضيف «انقلب الزمن في الحاصباني، تبدل المنظر، غاب خرير المياه، لتنتهي سمفونية ناعمة منعشة تعودنا سماعها على مدار الساعة، لقد صُمت آذاننا، بانتظار فجر جديد لهذا النبع المشهور، والمميز بمياهه الصافية وأسماكه الشهية ومناظره الخلابة. لقد تغيرت وتبدلت خريطة المنطقة في محيط النبع وليس باليد حيلة».
الدكتور نبيل عماشة محاضر في الجامعة اللبنانية، متخصص في علم البيئة والمياه، يصف شح المياه في العام الحالي بـ«الكارثة الطبيعية الكبرى، والأولى التي تطال لبنان بشكل عام، وليس في الحاصباني فقط. ومثل هذه الكارثة، كانت قد ضربت لبنان في أعوام 1930 وحتى 1933حيث كانت نسبة المتساقطات متدنية، إلى ما دون 40 في المئة من نسبة المعدل العام. اعتبر عماشة أن المشكلة المتوقعة في الحاصباني ستضرب المواسم الزراعية ومياه الشفة والقطاعات السياحية والصناعية، ناهيك عن الأضرار البيئية، أي ما يسمى بالتنوع البيولوجي، الذي سيحل بمجرى النهر، وعند ضفتيه إلى حد التصحر، ولذا كان لا بد من تدابير استباقية لتحاشي جانب من الكارثة.
ويشرح عماشة أن منها «ترشيد استخدام المياه، عبر التخفيف من الاستهلاك الفردي اليومي والمقدر في لبنان بـ180 ليتراً، كذلك هناك الحلول غير المحببة، ومنها حفر آبار ارتوازية لاستغلال المياه الجوفية. وهذا ما لجأنا إليه وبتمويل من الصليب الأحمر الدولي، حيث عملنا وبعد دراسة هيدرولوجية للمنطقة، على حفر بئر ارتوازية بمحاذاة نبع الحاصباني، سنضخ مياهها وقت الضرورة، لسد النقص في مياه الشفة على مدى السنوات الثلاث المقبلة، لتبقى الحاجة ماسة لمياه الري، حيث العطش سيطال الحقول المروية في حوض الحاصباني، علماً أن مساحة الحوض، وحسب دراسة أعدها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 516 كيلومتراً مربعاً، وطول المجرى الشتوي أعلى النبع 34 كيلومتراً. والمجرى أسفل النبع 21 كيلومتراً. وجاء في هذه الدراسة أن إجمال الاستهلاك الحالي للري يتجاوز أربعة ملايين متر مكعب في السنة، في حين المطلوب بحدود 30 مليون متر مكعب، ليصل عدد قرى الحوض إلى 47 قرية يتجاوز سكانها عتبة 70000 نسمة. أما المساحة الإجمالية للحيازات الزراعية فتقدر بنحو 8500 هكتار، والمساحات المزروعة 3630 هكتاراً، في حين المروي منها بحدود 800 هكتار. وستكون المزروعات عرضة خلال السنوات الثلاث المقبلة لليباس والهلاك، ليدفع معها المزارع فاتورة كبيرة، سيقف عاجزاً أمام هولها، إذا لم تسارع الجهات المعنية للتعويض عن جانب من الخسائر.
رئيس «اتحاد بلديات الحاصباني» منير جبر، أسف للوضع الذي بدأ يضرب حوض الحاصباني، لجهة الجفاف والنقص الواضح في المياه، وقال: «إن الاتحاد يعمل منذ فترة من أجل رفع التلوث عن مجرى النهر، كي لا يتحول إلى بيئة ملوثة، فكان أن توجهنا إلى رؤساء بلديات القرى المجاورة، بضرورة اتخاذ خطوات عملية لمنع تسرب المياه المبتذلة عبر المجاري الفرعية إلى النهر. كما بدأنا إصلاح الأعطال التي لحقت بمحطة التكرير في حاصبيا، ودعينا أبناء القرى لضرورة الترشيد في استعمال المياه، آملين إنجاز مشروع مياه الشفة في وادي عين جرفا، الذي كان قد بوشر العمل به منذ خمس سنوات، عله يغطي النقص المتوقع بالمياه والذي سيتفاقم حتماً مع نهاية الشهر الجاري. وقد تبين في هذا الأطار أن محطات الضخ في مشروع عين جرفا، لم تزود بعد بالتيار الكهربائي، بدون أن نعرف الأسباب التي تحول دون ذلك. وأنهى بالقول علينا جميعا التعاون في هذا الاتجاه، لتقطيع أزمة نقص المياه، التي فرضها الشح وقلة المتساقطات الخارج عن إرادة الجميع.
وكان النائب أنور الخليل قد عمل منذ فترة على تركيب وتجهيز، محطة لضخ المياه فوق نبع صغير، عند ضفة الحاصباني، هي الأولى من نوعها في المنطقة الجنوبية، بهدف اختصار الوقت خلال تزويد سيارات الدفاع المدني بالمياه وتعبئة خزاناتها بالسرعة القصوى عند الضرورة، وبقوة ألفي ليتر في الدقيقة، ما يعطي دفعاً خلال إطفاء الحرائق. لكن النبع بات مقصد عشرات أصحاب الصهاريج من قرى المنطقة. وباتت مياهه في بازار المتاجرة، لينعكس ذلك سلباً على كمية المياه المعتمدة في إخماد الحرائق، حيث هنـــاك ضرورة حتمية لحـــماية ما تبـــقى من مياه لاستخدامها في اللحظات الحرجة وخـــاصة مع نشـوب الحرائق المفاجئة.

السابق
الادّعاء على سارقي آثار صور الـ«مجهولين»
التالي
كيف تهيء طفلك للعام الدراسي الجديد؟