أسئلة التصدي للعنف الجهادي

أعادت الضربات الجوية التي وجّهتها الطائرات الأميركية ضد تنظيم الدولة الاسلامية « داعش» ثم مد قوات البيشمركة بالأسلحة من دول غربية وإقليمية عدة، وارتفاع حرارة المطالبة بتسليح المعارضة السورية لمحاربة هذا التنظيم، إلى جانب تواتر الجهود السياسية لبناء حلف واسع ضد «دولة الخلافة» ومن يدعمها، أعادت هذه التطورات إلى الواجهة الأسئلة عن سبل التصدي لجماعات العنف الجهادي، ولماذا لم تنجح الحملة المحمومة على الارهاب التي انطلقت بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 في هزيمة هذه الجماعات المتطرفة وتجفيف منابعها.
ثمة من يرجع الأمر إلى اقتصار الحملة على البعد الأمني والعسكري وإهمال أبعادها السياسية والفكرية والاقتصادية، متسائلاً، ألم تكفِ تجربة امتدت لأكثر من عقد من الزمن وشهدت حربين واسعتين في أفغانستان والعراق لتثبت قصور هذه الطريق وضحالة نتائجها؟ فكيف الحال إن توقفنا عند نجاح العنف الجهادي في إجبار القوات الأميركية على الانسحاب من العراق نتيجة الخسائر الفادحة التي تكبدتها، أو عند تزايد نفوذه في اليمن وباكستان على رغم وصول عمليات الاغتيال هناك إلى عدد من قادته وكوادره وعلى رأسهم اسامة بن لادن؟ وتالياً، ألا يكفي أن نتلمس اليوم أخطاره المتزايدة في ليبيا وانتشاره المهدد في مصر وتونس ولبنان والأردن وإنذاره «الداعشي» في سورية والعراق، كي نقتنع بأن الخيار الحربي لن يجدي وحده نفعاً في التصدي لهذه الجماعات الاسلاموية ولن يصل الى استئصال شأفة الارهاب، هذا إن لم يزد الأوضاع سوءاً.
هناك من يعيد السبب إلى التقصير في دعم تيارات الاسلام المعتدل وإهمال دورها الفكري في تعرية قوى التطرف ومحاصرتها، الأمر الذي مكّن هذه الأخيرة من تعزيز وجودها متوسلة شدة العنف السلطوي وتفاقم أزمات مجتمعاتنا واحتقانها بصراع مذهبي مدمر، في حين يعتقد آخرون، على العكس، بأن أحد أسباب نمو الفكر المتطرف هو الرهان الخاطئ على الاسلام المعتدل والغزل مع أهم تنظيماته وعلى رأسها «الإخوان المسلمين»، من دون الأخذ في الحسبان أن الاسلام السياسي عموماً يشكل حاضنة موضوعية للفكر الجهادي، فكلاهما ينهلان من منهل واحد وكلاهما يسعيان إلى تطبيق الشريعة الاسلامية وما يعتقدناه حكم الله على الأرض وإن اختلفا في الأشكال والأساليب، ولن يتوانى السلمي منهما عن استخدام اكثر الوسائل استئثاراً وبربرية لحماية ما يعتبره حقه المقدس، والأمثلة كثيرة تبدأ بالسودان وغزة قبل أن يغدو سلوك «الإخوان المسلمين» في مصر مثالاً ساطعاً، بينما يذهب طرف ثالث إلى وضع المسؤولية على فشل الإصلاح الديني، موجهاً اللوم في ما وصلنا إليه إلى غياب صوت العقل والعجز عن التأسيس لرؤية جريئة تحدث قطيعة نهائية بين الدين والدولة، مانحاً الأولوية لإنجاز إصلاح ديني في مجتمعات أدمنت الجمود والتقليد وصارت في أمسّ الحاجة إلى نشر العقلانية في طرائق التفكير ورسم الحدود بين الدين وأزمات الواقع واحتياجاته وفق منطق العصر وحلوله العلمية.
صحيح أن الحرب على الارهاب ترافقت مع دعوات لنشر الديموقراطية وحقوق الانسان وتنمية المجتمعات العربية كسبيل لسحب البساط من تحت أقدام التطرف والإرهاب، وصحيح أن الأنظمة المستبدة سارعت إلى محاربة هذه الدعوات، مرة بتوظيف فكرة المؤامرة الاستعمارية وبأن وراء نشر الديموقراطية مصالح إمبريالية لإذلال شعوب المنطقة والسيطرة على ثرواتها، ومرة بتحريك ما تيسر من جماعات ارهابية لإيقاع الأذى هنا وهناك، وإقناع العالم بأن لا بديل من هذه الانظمة لحماية الأمن والاستقرار، لكن الصحيح أيضاً أن قلة الصبر وضيق النفس العالميين والتراجع المبكر عن دعوات التنمية الديموقراطية لمصلحة دعم الاستقرار وأنظمة الاستبداد، ساهمت كلها في حفز نمو الفكر الجهادي وتسريع انتشاره، ليبادر اليوم إلى استثمار حالة السلبية والانكفاء التي وسمت السياسة العالمية تجاه ظواهر الفتك والتنكيل السلطوية ضد الربيع العربي كي يستجر من يسانده ويدعمه متوهماً القدرة على تحقيق حلمه القديم بإقامة دولة الخلافة الاسلامية.
والحال، فإن السؤال عن سبب استمرار التطرف الجهادي وتحوّل العنف والعنف المضاد إلى ما يشبه ثابتة من ثوابت الحياة اليومية، يقودنا إلى اكتشاف خلل عميق، لا يتعلق فقط بمؤامرات الخارج، بل يتعلق أساساً بالأمراض الذاتية المزمنة والمستوطنة فينا.
إن استبداد الأنظمة وغياب الديموقراطية والأوضاع التنموية المزرية في مجتمعاتنا التي خلقت تبايناً صارخاً بين ملاّك الثروة وجموع غفيرة يكويها الفقر والتخلف والجهل، ثم سياسات غض النظر الغربية عن الاستبداد والظالمة لحقوق الفلسطينيين والداعمة لإرهاب الدولة الصهيونية، الى جانب هزيمة البرنامجين القومي والشيوعي، ثم قصور المشروع النهضوي التنويري وضعف الجهود لبناء وتعميم خطاب صحي ينأى بالدين عن دنس السياسة ويعيد الاعتبار الى جوهر الإسلام الأخلاقي والإنساني، هي عوامل متضافرة لا تزال قائمة وتدفع الناس موضوعياً نحو الملاذ الديني وتحض الغالبية المتضررة على الرفض والتمرد، وتزيد تلقائياً من فرص نمو الميول العدوانية عند البشر وتدفعهم أحياناً دفعاً نحو الغلو والتطرف والعنف.
وبالنتيجة إذا كانت ثمة حاجة حقيقية لمحاربة العنف ومعالجة هذه الآفة جذرياً، علينا أن نعترف بداية بأن النهج القديم الذي اتبع في «الحرب على الإرهاب» قد ساهم في نشر الإرهاب ذاته، لا سيما مع اقتصاره على ردود الأفعال الأمنية الموقتة، والأهم مع تراجعه عن منح الأولوية للتنمية الديموقراطية، ليس فقط لأنها تكرس قيم الحوار والنضال السلمي واحترام التعددية وحقوق الانسان، أو لأنها تمكن الناس من الدفاع عن مصالحها والمشاركة في معالجة أزماتها، وإنما أيضاً لأنها المناخ المناسب لتفتح النقد والإبداع والاجتهاد الفقهي وتالياً لإنجاح إصلاح ديني ينهي العلاقة المرضية بين الدين والسياسة، فهزيمة الاصلاح الديني لم تكن إلا نتيجة لهزيمة حرية مجتمعاتنا وحقوقها ولانتصار الشمولية الأيديولوجية والأحادية السياسية في سدة السلطة.

http://www.alhayat.com/Opinion/akram-albny/4425166/

السابق
بالصورة: هيفاء وهبي تدعم جيش اللبناني!
التالي
الوحدة الايطالية قدمت هبة الى كاريتاس