بين الكاهن والشيخ

منذ أسابيع، ألقى كاهن مسيحي عظة في قداس أقيم عن روح شهداء الجيش اللبناني في معارك عرسال الأخيرة، توجّه فيها إلى “داعش والنصرة” بعبارات أثارت حفيظة شيخ مسلم. فردّ الأخير بعبارات أقسى رافعًا حدّة التوتر الطائفي. فكانت العظة والخطبة كفيلتين بإشعال مواقع التواصل الاجتماعي والشارع اللبناني، في دلالة على أنّ الطائفيّة في لبنان أشبه بجمرة تحت الرماد تنتظر دائمًا من ينفخه عنها لتشتعل نارها.

هذه الحادثة تعيد إلى الواجهة مسألة فصل الدين عن الدولة، ومنع تدخّل رجال الدين بالشؤون السياسيّة، واكتفائهم برعاية المؤمنين دينيًا، باعتبار أن الدين هو علاقة روحيّة بين الإنسان وربّه فيما دولته مسؤولة عن تأمين كل حقوقه وحاجاته الحياتيّة المختلفة.

هل الظرف الراهن المحتدم طائفيًا يحتم تدخل رجال الدين أم يفرض تنحّيهم عن الشؤون السياسيّة؟ هل العلمانيّة مازالت مطلبًا أم إن الاصطفاف وراء الطوائف كان وما زال أمرًا واقعًا؟

رجل الدين فاقدٌ حقوقه المدنيّة؟
يقول المطران سمير مظلوم لـ”النهار”: “السياسة لها معان عدّة. الكنيسة لا تتدخّل في السياسة بمعناها المُمارس في لبنان أي سياسة التحزّب والتعدّي على المال العام وسياسة الانتخابات العوجاء. لكن عندما يكون الأمر متعلّقًا بشؤون الناس والعمل الوطني، فالتدخل بالسياسة شأن أي مواطن لم يفقد حقوقه المدنيّة، ورجل الدين ليس فاقدًا هذه الحقوق وتاليًا لا يوجد ما يمنعه من إبداء رأيه بالأوضاع. ليس كل كلام عام سياسيًا، يجب التمييز بين العمل السياسي والحديث في الشؤون العامّة. إن توجّه الإنجيل والكنيسة الأساسي هو الفصل ما بين الله والأمور الدنيويّة، لكن عندما يقصّر السياسيون في واجباتهم، على رجل الدين بصفته مواطنًا ومسؤولًا أن ينبّه إلى الخطأ”.

في المقابل، يقول مدير عام الأوقاف الإسلاميّة في دار الفتوى الشيخ هشام خليفة لـ”النهار”: “رجل الدين له ما لغيره أن يتدخّل في أي أمر يعنيه ويعني المجتمع ومن حوله، وبما فيه الأمور السياسيّة. لكن على تدخّله أن يكون إيجابيًا، فهو ناشرٌ للمحبة والخير وداعيًا باسم الله. على رأيه أن يندرج ضمن إطار المصلحة العامّة ورقي الأخلاق والإلفة، متجنبًا إثارة الفرقة وما يثير النفوس. تقع على رجل الدين مسؤوليّة أكبر لأن كلامه يأخذ طابعًا دينيًا وعاطفيًا ولديه تأثير على الناس. فإمّا السكوت أو أن يكون كلامه جامعًا وموحّدًا”.

نعم للتحلّي بمسؤوليّة
وعن مسؤوليّة المرجعيّات الدينيّة في لجم هذه التصرّفات درءًا لأي فتنة، يقول خليفة: “الظروف الراهنة حسّاسة وتاليًا على رجال الدين أن يعوا ذلك، وأن يتفادوا أي تصريح أو عمل قد يزيد التوتر. الإسلام يدعو لمعاملة النصارى معاملة طيّبة واختيار الكلمات الحسنة عند مخاطبتهم”. فيما يقول مظلوم: “يجب أن نتحلّى بتهذيب اجتماعي. يمكننا تسمية الأمور بأسمائها لكن من دون شتم الناس”.

هل العلمانيّة هي الحلّ؟
“النهار” استطلعت آراء بعض الشباب حول تدخل رجال الدين في السياسة، في الأوقات الحسّاسة كما في الظروف العادية.

يقول شربل: “أنا مع العلمانيّة ضمن دولة يرعاها قانون مدني، لا تأخذ بأحكام القرآن ولا الإنجيل. فلا يتدخّل فيها رجال الدين في السياسة ولا يبدون حتى رأيهم، فتكون مهمّتهم التبشير بكلام الله. إبداء الرأي في الأوقات الحرجة والحسّاسة يجيّش الغرائز الطائفيّة”.

أمّا رامي فيقول: “نحن نعيش في مجتمع مركّب، ومن الطبيعي أن تلتفّ كلّ طائفة وراء رجل الدين الذي عليه أن يبقى على الحياد في الأمور الداخليّة التي تفرّق كي لا ينقسم الشارع اللبناني، لكن عندما تكون مواقفه أو آراؤه هي ضدّ الإرهاب أو ما يهدّد لحمة الوطن، فالحياد هنا يصبح جريمة، والساكت عن الحقّ شيطان أخرس. وبالتالي سواء عشنا في مجتمع علماني أو طائفي، كلّ شخص سيميل إلى الفكر الذي يعبّر عنه، العبرة ليست بالنظام بل بالفكر المتبنى”.

تقول سوزان: “من لديه قناعة بالعلمانيّة وضرورة فصل الدين عن الدولة، تكون قناعته دائمة لا تتغيّر مع تغيّر الظروف السياسيّة. أنا شخصيًا أؤيد الكلام الصادر عن الأب مخلوف، ولكني أرفض سماعه منه. هو كرجل دين عليه الاهتمام بشؤون رعيته الدينيّة من دون الدخول في النقاشات السياسيّة. فالمسيح تخلّى عن كلّ الأمور الدنيويّة، وتكلّم بلغة المحبّة فقط”.

في المقابل يقول عفيف: “على رجل الدين أن لا يتدخّل في الشؤون السياسيّة، لأنّ بتدخله يقلّل من مركزه. لكن إذا اضطر لذلك عليه أن يتأخذ قرارًا سليمًا مستعملًا العبارات التي تجمع ولا تحرّض، خصوصًا أنّه مرجع للمؤمنين.على رجل الدين أن يزين كلامه كي لا نصل إلى خراب لأننا نعيش في مجتمع مركّب طائفيًا وعلى كلّ فئة احترام الأخرى”.

أمّا سعد فيقول: “الدين يدخل في صلب حياة الإنسان، وتاليًا على المرجعيّات الدينيّة التدخل لحماية حقوق المؤمنين. هناك اختلافات جوهريّة بين الأديان لذا الحلّ يكون برقي الخطاب الصادر عن رجال الدين أو السياسة وليس بمنع تدخلهم في الشؤون السياسيّة والعامّة”.

العلمانيّة شعار أم نهج؟
أمام ما نشهده من تبدل للمبادئ، إذ إن كثيرين يطالبون بالعلمانيّة عندما تختلف مواقف رجال الدين عن آرائهم فيما يؤيدونها متى تماشت معها. فهل العلمانيّة هي المطلب الحقيقي أم إن اللعبة السياسيّة والمعطيات تغيّر القناعات؟

يقول المحلّل السياسي سركيس نعوم لـ”النهار”: ” المسلمون عمومًا يرفضون العلمانيّة لأسباب دينيّة. المسيحيون قد يتبنونها استنادًا إلى السوابق الغربيّة، علمًا أنهم يستعملونها للتهويل والمطالبة بالمشاركة التي تساوي بين كلّ البشر بغض النظر عن الدين والعرق والطائفة، مع وجوب الانتباه إلى أن المسيحيين لم يكونوا مرّة جديين بطرحهم للعلمانيّة، ولو أن لديهم نخبًا مؤمنة بها أكثر من النخب الموجودة عند المسلمين.

ويضيف: “في التجربة اللبنانيّة الخلاف المسيحي الإسلامي كان موجودًا قبل الحرب لكن لم تطرح العلمانيّة. احتدم الخلاف خلال الحرب ووصل إلى أوجه وعندما طُرحت العلمانيّة رُفضت من المسلمين، فيما المسيحيون باتوا مسيحيين أكثر. عندها بات رفض العلمانيّة نقطة تلاقٍ بين رجال الدين المسلمين والمسيحيين كي لا يخسروا امتيازاتهم ومكاسبهم. أمّا اليوم وفي ظلّ الجوّ المعكّر بين السنة والشيعة من جهة، وبين المسيحيين والمسلمين من جهة ثانيّة، من غير المعقول تطبيق العلمانيّة، كما أنّها لم تعد مطروحة”.

عندما تنسف اللعبة السياسيّة المبادئ!
من جهة أخرى، يشير نعوم إلى أن “المواقف السياسيّة لكلّ التيارات والأحزاب تنبع من مصالح سياسيّة وليس من مواقف عقائديّة وانتماء إيديولوجي. وبالتالي هناك اهتمام بمصلحة الزعماء وليس مصلحة الرعية. العلمانيّة باتت شعارًا للاستهلاك المحلي في البزار السياسي الدائر، فيما الشعب اللبناني يدّعي التقدّم ويعيش بجهل. لا يوجد أحزاب سياسيّة علمانيّة في البلد، باستثناء الحزب الشيوعي والحزب القومي اللذين طرحا العلمانيّة وتمسّكا بها لفترة، لكن تحالف الحزب القومي مع سوريا والتصاقه بها جعل هذا الطرح مجرّد شعار، فبات يطالب باللاطائفيّة وليس العلمانيّة. أمّا الشيوعيون الذين فقدوا دورهم، باتوا ينادون باللاطائفيّة، فيما تمسّكهم بالعلمانيّة لا يحمل وهجًا لأنّهم من الأقليات المؤثرة في البلد”.

وصلت أوروبا إلى العلمانيّة بعد سنين من الحروب الدينيّة، ففصلت الدين عن الدولة بقناعة من شعوبها، وباتت العلمانيّة نهج وثقافة هذه الشعوب التي تتمسّك بها رافضة التخلّي عنها والعودة إلى العصور الأوروبيّة السوداء. لكن في مجتمع مركّب مثل لبنان، محاط بدول عربيّة مسلمة (ترفض عقائديًا العلمانيّة)، يتأثّر بحروبها وبسلمها، ومرتبط بها ومنتمٍ إليها سياسيًا، هل يكون استيراد العلمانيّة هو الأنسب، أم إن نبذ التخلّف والترقي والاقتناع بأنّ ديمقراطية الجماعات القائمة على الاعتراف باختلاف الآخر وتقبّله واحترامه بعيدًا من موازين القوى هو الحلّ؟

السابق
مجلس حقوق الإنسان انعقد استثنائيا في جنيف بطلب من لبنان للبحث في انتهاكات داعش
التالي
تراجع الآمال بالافراج عن العسكريين قريباً.. والنصرة لن تطلق احداً بلا مقابل