سيرة حزبية: من العمال إلى الفلاحين

التظاهرة العمالية المنطلقة من معمل التبغ، بقيادتنا، تبدو قليلة الحجم إذا ما قيست بتظاهرات دعم العمل الفدائي؛ لا هدير جماهيرياً صاخباً، ولا أعداد هائلة تحتل الكيلومترات، أو مربعات حزبية متنوعة؛ نحن فقط بضع عشرات، نسير بنوع من الكبرياء المتواضع، ولا نحاول رفع صوتنا أعلى مما هو؛ نعلم، من التعليمات التي أوصلها الرفيق صقر، بأن جمهرة أخرى من طلاب العلوم سوف تستقبلنا، وتنضم إلينا، لنشكّل بذلك اللحمة المطلوبة بين الطلاب والعمال، تلك التي من دونها لا تتحقّق مطالب.

من بعيد نحدق بالباب الرئيسي الذي سوف يحقق خطتنا غير المسبوقة، على ما نتصور. وقبل وصولنا بقليل، يظهر أخيراً الرفاق والابتسامات المشجّعة على وجوههم. وما أن يقع نظرهم علينا حتى يفتحون باب الكلية على مصراعيها، ويبدأون بالترحاب: «أهلاً أهلاً بالرفاق! أهلاً بالرفيقة!»، إذ إنني، مع جاكلين، الشابة الوحيدة من بين الشباب.

هؤلاء المستقبلون من الرفاق لا أعرفهم، ولا لمحتهم في البلوكات التابعة لمنظمتنا في تظاهرات سابقة. أنظر الى الرفيق صقر، لعلّ وجهه يفيدني بمعلومة أو اطمئنان؛ ولكن لا شيء محدداً ينضح منه، غير الابتهاج بهذا الاستقبال الحار، والخوف من ان يضيع العمال في ممرات الكلية ولا يعرفون أين يذهبون بعد ذلك.

فهمّه كله أن يمشوا معه حتى قاعة المحاضرات الكبرى، حيث ستلقى خطب الالتحام بين الطلاب والعمال، والتشارك في المطالب المحقّة بوجه الذين يستغلونهم ويضيّعون عليهم مستقبلهم. ولكن شيئاً يحصل في الممر الطويل المفضي إلى قاعة المحاضرات، يجمِّد دمنا في عروقنا للحظات. أحد الذين استقبلنا بصفته رفيقًا لنا، يختفي برهة، ثم يعود بحمية جديدة، يهمس للرفاق المستقبلين أمراً ما في أذنهم، يبدو خطيراً؛ وفي لحظة واحدة، تتجه أنظار أولئك الرفاق نحوي، مصوبة عليّ كل ما تراه من عداوة، وتطلع منهم صرخة واحدة «شرمو…!»، مرددينها عشرات المرات، حتى وصولنا إلى القاعة، كأنهم يزّفون عروساً.

ماذا جرى في هذه اللحظة؟ ما الذي تغير؟ دقائق من الفوضى والاضطراب، لا نفهم شيئاً مما حولنا… وإذا برفاق آخرين يطلّون، نعرف وجوههم، يفهموننا بأن الذين استقبلونا ليسوا من منظمتنا، إنما من الحزب الشيوعي، وإنهم تصرفوا من دون العودة الى قيادتهم، واعتقدوا أن التظاهرة الآتية اليهم من معمل التبغ هي لحزبهم، طبعاً، طالما انهم وحدهم يهتمون بالعمال، فاستقبلونا مرحبين معتقدين أننا من الحزب. وبعدما تيقنوا بأننا لسنا رفاقاً لهم، إنما من المنظمة، وجدوا ان أسرع ردّ وأوجعه على «الخديعة» التي أوقعوا أنفسهم بها، هي اكتشافهم المفاجئ بأنني لست بالواقع رفيقة مناضلة، بل بائعة هوى…

بعد الصدمة، وانتقال دفة اللقاء الجامعي إلى داخل قاعة المحاضرات وإلى أيادي شباب منظمتنا، تستقر الأمور، ويجلس الجميع على مقاعدهم، طلاباً وعمال، ونأخذ بالكلام، الواحد تلو الآخر عن المصير والمصالح المشتركة… الرفاق الأعداء من الحزب لا يعفون وسيلة لإفشال هذا التجمع الذي نراه نحن رائعاً وواعداً: يصفّرون، يصرخون مقلّدين البومة، يفتعلون الصراخ والحركة الصاخبة، كلما علا تصفيق أو نبرة خطاب. ينتهي الحفل كأنه ينطفئ، لا يحدّد خطوات لاحقة كما كان متفقاً عليه، ولا ينطوي إلا على وعد بلقاء جديد، لا يشوبه سوء الفهم التنظيمي هذا بين الحزب والمنظمة، والذي حولني بقدرة العماء التنظيمي من طالبة تناضل في صفوف العمال الى «شرم…». سوف يكون عليّ وعلى الكثير من الرفيقات، في نضال لاحق، أن نتلقى هذه «الصفة» كلما بدونا على درجة من التحفز والنقد، أو النضال… أو لمجرد حضورنا في الحياة… ولكن هذا موضوع آخر.

بعد موقعة كلية العلوم هذه، يبدو الرفيق صقر، بالتشاور مع القيادة ربما، وكأنه يبحث عن هواء أكثر حفاوة من ذاك الذي صادفه في معمل التبغ وكلية العلوم، في ضاحية بيروت الجنوبية. هو منذ زمن مأخوذ بالتجربة الصينية، بعدما نفدت ذخيرة البلاشفة والمناشفة الروسية من قدرتها على حشدنا وتحميسنا. الآن عنده الصين، وتجربتها الماوية الفريدة من نوعها: ماو تسي تونغ رفع من شأن الفلاحين، أعطاهم حيزاً أكبر في نضاله ومراحل حكمه الأولى. والآن الرفيق صقر هو بصدد «الثورة الثقافية» التي أطلقها القائد -الثائر الصيني من أجل «بناء الإنسان الجديد». فهيا أيها الرفاق إلى عكار، حيث يئن العالم الفلاحي تحت وطأة العوز والفقر، هو وحده حامل النصر معه من عرق جبين العمال الزراعيين. هكذا ننطلق أنا والرفيقان صقر وغسان نحو الشمال اللبناني، في مشوار طويل بسيارة تعطلت مرتين على الطريق، لنصل الى طرابلس، نلتقي الرفيقين صالح وأميرة في ساحة التل، نأكل سندويشات الجانبون الساخنة، ثم نتجه نحو عكار، حيث تنتظرنا «اتصالات» فلاحية، أي فلاحون تمكّن رفاق الشمال التكلم معهم وتحديد موعد اللقاء بهم في المساء.

نصل إلى إحدى قرى عكار في بداية الليل، وندخل مباشرة بيتاً متواضعاً؛ وبعد سلام وكلام، يبدأ الرفيق صقر بتلاوة نظرية ماركس في الملكية الفلاحية، ومن بعده لينين، والأهم من الاثنين، ماوتسي تونغ، ابن الفلاحين، الذي قام بثورة عظيمة من أجل تأميم الأراضي الزراعية وإعادة توزيعها على الفلاحين، والذي عاد بثورة ثانية «ثقافية»، فطارد كل متخاذل، كل متواطئ ضد مشروع بناء الإنسان الشيوعي الجديد، الذي سوف يقضي على الاستغلال والملكية الكبيرة. «أنتم أيها الفلاحون»، يتابع الرفيق صقر، «لا تملكون غير أياديكم، لا تملكون حتى قطعة أرض صغيرة. أنتم مثل العمال، حلفاؤكم، تبيعون قوة عملكم لصاحب الأملاك، التي هي من حقكم أنتم…!». أنا وغسان لا نتفوه بكلمة واحدة؛ كل العمل التحريضي في حالة كهذه، حيث يكون مسؤول الحلقة موجوداً، يعفينا إلا من الصمت، والتعلّم والمراقبة. العمال من جهتهم تبدو عليهم ملامح السرور؛ ها هو شخص آخر من بيروت، وليس رديفاً من الشمال، يهتم بهم ويجعلهم يحلمون بأوضاع أكثر رحمة، بل اوضاع تنقلب فيها الدنيا رأساً على عقب، فيصبحون هم الأسياد، ويُعلّق وشم العار على صدر الإقطاعيين الاستغلاليين، وتُحفر على جباههم لعنة التاريخ، حيث يرمون في مزبلته… كما حصل في الثورة الثقافية الصينية. ننهي اجتماعنا على رضى الجانبين: نحن الذين نقوم بواجبنا النضالي ونخترق ملَل النضال العمالي وحده، الذي لم يبدأ بعد، والفلاحون الذين ينامون، ليلتها، على وعد بدنيا من صنع خيالنا.

شيء ما يربكني، بعد هذه السهرة النضالية الفلاحية في الشمال: لا أفهمه تماماً، ولا أنا قادرة على صياغته. مثل انطباع، لا يستند الى «واقع ملموس»، كما يجيبني الرفيق غسان عندما أشاطره سبب ارتباكي الداخلي هذا. وما أكتبه الآن حول هذا الارتباك ليس ابن ساعته، إنما يعود فضل تبلوره إلى الأيام، والتجارب الأخرى، وربما أيضا المقارنة بيننا وبين الأحزاب التي كانت مثلنا صاحبة أيديولوجيا. الآن فقط صار يمكنني القول إننا كنا على درجة عالية من الإدعاء. مجرد انضمامنا الى المنظمة كان يمنحنا الاعتقاد بأننا بتنا نفهم كل شيء؛ وبأننا أرفع من كل من حولنا من البشر بفضل هذا الوعي الجبار لمعطياتنا، ولذلك فان أولى مهامنا أيضا هي توعيتهم على ما نحن نعيه. طبعاً هذا الادعاء بالوعي المتفوق على غيره فوّت علينا معرفة أشياء وأشياء؛ منها مثلاً ان الثورة الثقافية الصينية التي انطلقت عام 1966، كانت يوم تحمسنا لها، أي عام 1971، قد أنهت طور عشوائيتها ومجازرها وتحطيمها للمجتمع الفلاحي الصيني. قوة الدعاية الحزبية جعلتنا نعيش، نحن والشعب الصيني، في الوقت الواحد، وتحت العنوان الواحد، حالتين مختلفتين جذرياً: فيما هو كان غائصا في بحر دماء الثورة الثقافية، كنا نحن نحشد للفلاحين والطلاب، على أساسها، من أجل الحصول على المزيد من الحقوق والحريات، وبناء مجتمع الحرية والعدالة!

هذا التفويت يبدو ضئيلاً أمام شيء آخر، كان سببه أيضا تعالينا غير المعقول تجاه العمال والفلاحين الذين كنا ندعوهم للانضمام إلى صفوفنا: فباستثناء العرض الذي قدمته جاكلين لأقسام معملها، في الحدث، لم نسمع من العمال والفلاحين غير كلمات التحية والثناء. لم نتركهم يتكلمون في أي من اجتماعاتنا معهم. كنا نأتي اليهم محملين مدججين بنظريات فائض القيمة والإنسان الجديد، وما نعرفه عن شروط عملهم من خلال كتابات كبارنا؛ نتلوها عليهم، كل بأسلوبه التحريضي الخاص، فيما هم يصغون، يحاولون ان يفهموا وهم لائذون بالصمت؛ يعتزون باللقاء بنا، بـ»تواضعنا»، بتناولنا لأوضاعهم وبمعرفة أسمائهم، وغالباً ما يخرجون من اجتماعنا بهم وكأن حلماً قد أصابهم..

لم تأتِ إلا في بال الرفيقة سامية فكرة اختراق العالم العمالي، والإصغاء إليه في حياته اليومية. وهذه قصة أخرى أتى الآن وقتها.

السابق
السنيورة للقاء سيدة الجبل: الارهاب لا يحارب بالاستبداد ولا بالطائفية
التالي
سبعة أسباب أحبطت تشكيل «حكومة شراكة» في العراق