حين لا ينفع الرتق والترقيع

فَقَدَ الجميع، من أبناء المنطقة، كما من المتـــعاطـــين بشــــؤونها، تماسك ما يدلون به أو يقررونه بخصوصها… هذا عدا عن فقدان الحياء.
يقول الرئيس الأميركي باراك أوباما إن بلاده ستوقف العمليات الإنسانية في جبال سنجار غرب الموصل، لأنه لم يعد من حاجة لها، ليس لأنه لم يتبق ملتجئون في الجبال من الأيزيديين الذين فروا من قبضة «الدولة الإسلامية» ومن سواهم، وإنما لأن «عددهم أقل من المتوقع». حسناً! المنطق يملي العكس، والله أعلم. فقلة عددهم يُفترَض أن تسهّل مهمة إجلائهم كما خُطط له للحظة. ووجودهم، ولو كانوا بضع مئات أو بضعة آلاف، يَفترِض الاستمرار بإلقاء المساعدات لهم (من الجو!). سيُترك إذاً هؤلاء التائهون الذين لم ينجحوا في الوصول إلى أماكن آمنة فــي كردستان أو تركيا، يتدبرون أمرهم، بعدما تبين أن الخطر لا يهدد عشرات الآلاف. ما المعيار، وما الرقم المقبول لوقوع ضحايــا؟ هذا ما لم يوضحه خطاب أوباما المستند الى نتائج البحث الميداني لبعثة أرسلها البنتاغون إلى تلك الجبال الأربعاء الماضي لتقويم الموقف، وتألفت علاوة على خبراء من «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، من عشرين عسكرياً (ولمن عايش فترة الستينات، فالعسكريون الأميركيون هؤلاء يتبعون القوات الخاصة، وقد عادت إلى التداول تسميتهم بـ «القبعات الخضر» المتخصصة بـ «تدريب الجيوش المحلية» وبحروب العصابات، وكانت اكتسبت رمزياً صيتها السيء بعد تدخلاتها آنذاك في أميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا).
قرر إذاً الأميركيون ومعهم البريطانيون الذين يتحملون مسؤولية كبيرة عما آلت إليه الأمور في العراق، التوقف عن لعب دور المسعفين الإنسانيين، على الأقل، وتعويضاً، وطالما هناك عجز تام حيال الموقف. ولكن لا…
في المقابل يعلن الرئيس الأميركي استمرار القصف لإبعاد قوات «الدولة الإسلامية» عن… أربيل. أو فلنقل لرسم حدود بالنار لما يَنظر إليه الأميركيون كخط أحمر. واللعبة هنا عقيمة، حيث تُترَك السيطرة لمجموعات «الدولة الإسلامية» على مناطق واسعة من محافظة نينوى، وفي القلب منها الموصل، كما تُترَك طليقة في التوجه نحو محاور أخرى، وهو ما يبدو أنها تتهيأ له. كأنما الإدارة الأميركية استجمعت كل طاقاتها لتقول: «يمكن اللعب مع العرب، وأما الكرد فحصتنا، وهي لا تمس». وعلى أية حال، برر الرئيس الاميركي التدخل العسكري الجديد بأنه «لحماية المصالح والمنشآت الأميركية في المنطقة».
الحقيقة الساطعة تتعلق بالعجز عما هو سوى ذلك. فما يجري من أحداث كما أدوات «معالجتها»، هما معاً وفي آن، محصلة سياق كامل، ولا يقومان كمعطيات بذاتها. لذلك لا يجدي تناول الموقف من «ذنبه»، ولا انطلاقاً من اللحظة الراهنة. فمثل هذه المقاربة لا تفسِّر ولا تعالِج. وما يجري اليوم في شمال العراق مثال جيد لتبيان قصور ذلك المنطق المتكامل الذي اشتُغِل على جعله مهيمناً في شكل مطلق (في كل الميادين وليس في السياسة فحسب، ولا في ما يخص مصائر الشعوب). منطق يكتفي باستحلاب حلول «عملية»، مباشِرة وفورية، للمآسي التي يطرحها الواقع، ويطالب باقتراحات قابلة للتطبيق، عوضاً عن «التنظير». لكنه يتكشف عن عجز مهول حتى في صدد الحيز الذي اقتصر عليه، ويبدو شكلياً أو استعراضياً على عكس ما يدّعيه من براغماتية. وتميزه فعلياً قدرته المدهشة على قلب الصفحات، متجاهلاً تراكم وتفاقم المشكلات المموَّهة بهذه الصورة، إلى أن تنفجر بعنف متعاظم. يصح هذا على المشكلات العالمية، الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وهو يعلن أننا أمام مشهد أزمة كبرى وشاملة، وأنه، وربما للمرة الأولى في التاريخ الحديث، يجري التسليم باحتمال النكوص إلى الخلف والتراجع إلى وضعيات بربرية. وليس توحش «داعش» أكبر من توحش الولايات المتحدة التي ألقت آلاف الأطنان من اليورانيوم المنضب فوق العراق واستباحته بواسطة قواتها (ومرتزقة بلاك ووتر وسواها) في مجازر مشهودة (هل نسينا؟)، أو من توحش إسرائيل، الدولة المتحضرة والغربية التي تريد «اختفاء» الفلسطينيين، وتقصف تكراراً مدارس/مــلاجئ لـ «انروا» في غزة المحاصرة منذ سنـــوات، ولا أكبر من توحش الأنظمة التي تلـــقي الـــبراميــــل المتفجرة طوال أشهر أو سنوات على رؤوس السكان، أو تلك التــــي ترتكب مجازر بسيناريوات مختلفة… إلى آخر سلسلة لا تنتهي كان من الصعب قبل عقود تخيل وقوعها على هذه الصورة المتفلتة من أي ضابط، ولو كان تمويهياً.
وهذا تراجع عام قياساً الى القناعات والأفكار الإيجابية الليبرالية، والتقدمية. وهو لا يخص حالنا فحسب، على رغم دراماتيكيتها ووصولها الى مستوى الأخطار الوجودية، فلا يمكن الاستخفاف ببــــؤس الناس، المتعدد الأشكال، في البلدان المسيطرة والمتقدمة وما يعين كفقدان المعنى… وهذا موضوع أشمل، لا يهم هنا إلا بما يكشفه من تشارك في منطق واحد «بيننا» و «بينهم» (على رغم كل الفروق) يقوم على الإنكار والعجز، ويتوسل الرتــــق والترقيع، ويأمل بالنجاح بمقدار ما في تأجيل انفجار المشكلات ليس إلا.
يتأمل «الإستراتيجيون» ملياً خريطة سورية والعراق، ويلقون استنتاجاتهم عـــلى مسامع مذعورة أو يائسة. وبعضها أخــــرق يتكلم عن تقسيم جديد للمنطقة وفق تـــوافقـــات تحل محل سايكس بيكو، كأن ما يجري يخضع لخطة محكمة، مهندسة في دهاليز سرية… بينما يتكشف الواقع عما هو أخطر بكثير من «المؤامرة»، عن جدب في البنى العقلية والخيال السياسي والمجـــتمعي، وعن اهتراء في المؤسسات كافة، عسكرية ومدنية، ما يمكِّن تنظيمات كـ «داعش» وسواها، تمتلك حداً من التماسك حول فكرة (مهما بدت متهافتة أو اختزالية)، ومحركاً يستحضر السماء، من امتلاك فعالية ميدانية عالية، وجاذبية لموجات من الشباب وجدوا أنفسهم وسط خراب لا اسم له ولا أفق أمامه.
… وللنكتة، أليس من دلالات هذا الإدقاع، مسلك نوري المالكي حين واجه نفور الجميع منه (أميركا وإيران معاً، والشيعة قبل السنّة) فساوم على خروجه من السلطة شرط عدم ملاحقته ومحاكمته! وقبلها رفع لافتات في شوارع بغداد تعلن التمسك به لأنه… «ساحق داعش»، بلا خوف من المسخرة… بينما تواجه السلطات المصرية تقـــرير منظمة «هيومن رايتس ووتش» الذي توصل الى تحميلها المسؤولية عن مجزرة ميدان «رابعة» قبل عام، بالقول إن المنظمة مشبوهة (مفهوم!)، و «منحازة إلى الإخوان المسلمين». كيف؟ الله أعلم.

السابق
تراجع اساتذة التعليم الاساسي والمهني عن قرار هيئة التنسيق
التالي
الراعي:الميثاق الوطني بمثابة الروح للكيان اللبناني القائم على لاءين: لا للتيوقراطية الدينية ولا للعلمنة الالحادية