أوباما الرئيس المربّي

اوباما

في الأمس، عندما كنا خارجين إلى المستقبل عبر استقلالنا من الإستعمار القديم، كانت أميركا، وريثته، تفعل كل ما يلزم لكي ننضم إلى محورها: تهديدات عسكرية، ضغوط اقتصادية أمنية وعسكرية… كل شيء من أجل ان نتخلى عن فكرة الإستقلال وننضم إلى محورها، إلى مناطق نفوذها، التي كانت تحسبها بدقة وبقوة، لتواجه النفوذ السوفياتي المنافس لها. كان هذا مع نهاية الحرب العالمية الثانية واستقرار الكوكب الأرضي على توازن بين كبار المنتصرين فيها، أميركا وروسيا؛ سميت حربا باردة، تخلّلتها جهود أميركية، وروسية، حثيثة، لشلّ قدراتنا عل بناء دول، كما كنا نتمنى. فكانت تنضم دول وحركات سياسية من بيننا إلى قافلة طويلة من مقدمي الولاء لأميركا، والمتنعمين بكرمها الإمبريالي.
الآن، تغيرت الأوضاع. الولاء لأميركا، وليس العداء لها فقط، لم يعد ينفع شيئاً. ليس لأن أميركا دخلت في طور الكمون فحسب، إنما أيضاً لأنها لم تعد ترى فائدة من تدخلاتها العسكرية أو الديبلوماسية، خصوصا في المشرق والمغرب العربيَين:
في مصر، أيدت الإخوان المسلمين، لأنها وجدتهم أصحاب شعبية ساحقة، انتصروا على كل خصومهم في انتخابات نظيفة. ولكن الإخوان كانوا جاهلين في التعامل الديموقراطي إلى حدّ أن العسكر، منافسيهم، تمكنوا من انتزاع الإجماع الشعبي حولهم، فأسقطوهم، بلمحة بصر، بعنف شديد يؤسس لعنف مقبل ابشع منه، ولاقتصاد مترنح، يحقن بمساعدات مالية ضخمة تقوض كل قراراته.
في ليبيا، أشركت أميركا أوروبا في حملة عسكرية جوية صارمة، لا نعرف حتى الآن عدد قتلاها، كانت ترمي إلى إسقاط القذافي؛ فخرج “المجاهدون، السلفيون”، الموزَّعون بين عصبيات مدن ومناطق وقبائل، وكان أول انتصاراتهم الهجوم على السفارة الاميركية في بنغازي، وقتل سفيرها كريستوفر ستيفنز، المحبّ لليبيا والعرب، ومعه موظفين في السفارة؛ ومذذاك والميليشيات الجهادية والسلفية تقاتل بعضها البعض، وتقاتل “البرلمان” المنتخب.
وبعدما غزت قواتها العراق وحطمت جيشه، المحطم أصلاً، تعبيراً عن آخر نفس امبريالي ما زال قابعاً في دفاترها القديمة، تركته لحكومة أحبت أن تعتقد بانها موالية لها، او غضت الطرف عن صلة رجالاتها التاريخية بإيران… ها هو هذا العراق يتخبّط بين حكومة غالت في مذهبيتها حتى كانت سببا في احتضان السنة العراقيين لـ”داعش”؛ فكان ما يعرفه كلنا من أهوال بين تقسيم وتهجير وجرائم كبرى ضد الإنسانية. ماذا تفعل أميركا بهذه البلدان، بعدما سخت بالغالي والنفيس من أجل “ترتيب” أوضاعها ووضعها على سكة أشبه بالطبيعية؟ بالكاد تتفاعل مع صرخات إنسانها المنكوب على يد “داعش”، أو تنصت، أخيراً، إلى رجاء الكرد بدعم البيشمركة التي تواجه “داعش” على مبعدة من أربعين كلم بعيدا عن عاصمتهم. ولكنها هذه المرة، تمسك الشوكة والسكينة، وترسل طائرات بلا طيار لقصف مواقع داعش، فضلا عن بضع مروحيات تسقط الماء والأغذية للأيزيديين، اليائسين المحاصرين في جبل سنجار. فتخلط بذلك اوراقا كثيرة، منها ورقة النظام السوري، الذي وجد نفسه فجأة في حلف موضوعي مع أميركا في حربه ضد الإرهاب.
كانت أميركا في ما مضى كريمة مع حلفائها، أو المذعنين لمشاريعها. تضخ عليهم الأموال والاستثمارات والمشاريع، تقتل خصومهم، خصومها، وتقدم الخبرات والتقنيات العالية. كانت أميركا عطوفة على التابعين لها، شرسة مع أعدائهم. الآن صارت أميركا غير مبالية بحلفائها، تكاد تسمع أصواتهم، ولا تتردد في تقديم الدعم الموضوعي أو غير المباشر لخصومها التقليديين؛ وللمرة الأولى في تاريخها، وبضمير مرتاح على ان لا تكون قد “أخطأت” أيضاً، هذه المرة، في تدخل عسكري تكرهه الشعوب والرأي العام الدولي. لم يبق حليف أكيد لأميركا الآن غير إسرائيل، وربما في المستقبل، إيران، المرشحة المحتملة: ذلك ان الأولى قوية بذاتها واقتصادها وعسكرها، معتمدة على نفسها وعلى شبكاتها الخارجية المنظمة، هي الأخرى؛ وإيران، التي حلت بمفردها صراعها الداخلي على السلطة، واستقوت بالنووي وفلسطين، فأحرزت دورا في بلداننا، ضعف قليلاً بعد “انتصارات” داعش الميدانية… ولكن مع ذلك، لا يمكن لأميركا غير أن تقع في إغراء إشراكها في دورها.
نحن أيضا ساعدنا اميركا على أن تتغير، وليس فقط الضعف الذي انتابها. في مقابلة مع الصحافي الأميركي توماس فريدمن (صحيفة “نيويورك تايمز”)، يكرر باراك أوباما لثلاث مرات فكرة ان أميركا لا “تستطيع ان تفعل لهم (أي العراقيين) ما هم غير مستعدين أن يقوموا به من أجل أنفسهم”؛ وذلك ردا على الصحافي الذي ألحّ عليه بدوره عن سبب عدم تدخل أميركا في العراق أو سوريا أو غيرهما من أوطان الحديد والنار. وعن العراق أيضاً، يردد بصراحة بأنه لن يكون شريكا لحكمه إلا إذا استطاع أن يبني قوة أمنية غير طائفية، وتأليف حكومة جامعة للشيعة والسنة والكرد (بعدما كان بول بريمر، حاكم العراق الاميركي بعد غزوه، رتب فيه حكم التقسيم الطائفي والعرقي…). هذه اللهجة التربوية البالغة الحكمة والتبصر، أين منها تهديدات جورج بوش الابن باجتياح العراق لمجرد اليقين الكاذب بأنه يملك أسلحة دمار شامل…؟ مفارقات أميركا لن تنتهي إلا عندما تلبس صراحة ثوب زمنها الجديد، ولا نكون مجرد مستنكرين له، لمجرّد اننا اعتدنا ان نكرهها…

السابق
«داعش» يمنع تدريس الكيمياء والفلسفة
التالي
مسيرة الى ضريح الصباح في ذكرى ولادته