حتى لا يتكرر نوري المالكي

إصرار غالبية أعضاء البرلمان العراقي على عدم التجديد لرئيس الحكومة السابق نوري المالكي، يشبه «إطاحته» أكثر منه أي شيء آخر. فبرغم أن الأخير لم يكن قد سُمّي رئيساً للحكومة بعد، إلا أن قرار إزاحته من الصورة، جاء خلافاً لنتائج الانتخابات، حيث نالت كتلته وحدها 29 في المئة من مقاعد البرلمان، متجاوزة بذلك القوى المرشحة للمنافسة بأشواط.

في المبدأ، يُعد نيل المالكي أقل من ثلث المقاعد فقط، واعتباره، برغم ذلك، مؤهلاً تلقائياً لرئاسة الحكومة، نتاجَ الخلل البنيوي الذي يعتري دستور المحاصصة الطائفية الهجين في العراق. والمثالب الدستورية هذه، وهي التي أُسس لها في عهد الإدارة المدنية الأميركية لبغداد بُعيد احتلالها (والتذكير هنا لمن خانته الذاكرة أو استغفل إرادياً)، ولّادة لأزمات دورية وحلقات مفرغة، لا تنفع لحلها العودة إلى النصوص الملتبسة أصلاً.
لذلك، تغدو المداخلات الإقليمية والدولية ضرورية من أجل اجتراح الحلول عند كل استعصاء. أي أن الدستور العراقي، بحكم بنيته المختلة، بطاقة دعوة للخارج من أجل التدخل. يُشبه الأمر انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، حيث يمكن لما يزيد عن ثلث البرلمان أن يمنع ما يزيد عن نصفه من انتخاب رئيس البلاد، بمجرد التخلف عن حضور جلسات التصويت، ويمكن لحالة الفراغ الدستوري المتولدة عن ذلك، أن تستمر إلى أجل غير مسمى، ريثما يتم التوافق في الخارج على حل يعكس موازين القوى الإقليمية.
الأمر مشابه في العراق. ولأن العيوب الدستورية لا تتيح إنتاج آليات معالجة مؤسساتية، لا يمكن النظر إلى انتخاب رئيس الحكومة العراقية الجديد، إلا من زاوية كونه نتاج جملة من العوامل اللاحقة للعملية الانتخابية، لا المتصلة بها مباشرة. إذ إنه جاء بعد انهيار قطاعات الجيش العراقي في وسط وشمال البلاد، ومع رفع الغطاءين المحلي (مرجعية السيستاني) والإقليمي (إيران) عن المالكي، وتوازياً مع الضغط الأميركي القاضي باستبعاده عن ولاية جديدة.
بيد أن قرار سحب البساط من تحت رجلي المالكي، خصوصاً من جانب حلفائه، جاء متأخراً. فكل ما في البلاد كان يؤشر إلى تدهور حادٍ في الأوضاع الأمنية وإلى تفكك العملية السياسية مع اتساع رقعة الاحتجاجات في الأنبار وارتفاع وتيرة العمليات الانتحارية وتشجيع بعض دول الخليج على قلب الموازين رأساً على عقب.
ولم يكن أداء المالكي حيال مجريات الأمور يحيد قيد أنملة عن نهجه المعتمد طوال سنوات حكمه الثماني السابقة. بل إنه ضاعف من محاولات التفرد بالسلطة، ملاحقاً قيادات سياسية «سنية» وازنة، مرة بحجة الإرهاب، ومرة أخرى بحجة الانتماء إلى «البعث» أو التعاطف مع عناصر الحزب المحظور، ومجذّراً نزعة المحسوبية والفساد في قطاعات الدولة وإداراتها، وهو ما ساعد، مع غيره من الأمور، على خنق احتمالات بروز حالات إصلاحية وغير طائفية (برغم صعوبة ذلك) من خارج «الإستابلشمنت» السياسي القائم.
وقد ظهر رئيس الحكومة السابق كالقابع داخل فقاعة. فعاش ما يشبه الإنكار الذي ضاعفت منه نشوة نتائج الانتخابات. ولم يقدّر أن كتلته، التي ثبت ضعف ولائها مع خروج حيدر العبادي منها ليخلفه مؤخراً في رئاسة الحكومة، لا وزن تمثيلياً يسمح لها بإدارة البلاد متفرّدة.
والمفارقة أن المالكي كان قد اعتبر بعيد إعلان النتائج، في ما يشبه التصريح الاحتفالي، أن الانتخابات تميزت عن سابقاتها لناحية إدارة وحماية وتمويل السلطات العراقية لها، من دون «مساعدة من الخارج»، مؤكداً ضرورة إعمال «آليات الديموقراطية لتحقيق حكومة الغالبية».
وقد جاء الانهيار الأمني بعد ذلك بأسابيع ليثبت أن قدرة حكومته على إدارة البلاد سراب في سراب، وأن «حكم الغالبية» غير ممكن لأن العراق يعيش أزمة عقد اجتماعي وميثاقي عميقة. وما جعل اندفاعة المالكي مستغربة، أنها جاءت في ظروف مهيِئة لما تلاها من انفراط. حتى إن تقارير استخبارية أميركية، سُربت على الملأ قبيل الانتخابات، كانت قد حذرت من «مخاطر وقوع حرب أهلية» في حال فوز كتلته وتصديه لتأليف الحكومة.
هكذا، نُظمت الانتخابات برعاية الحكومة «منفردة»، وأعلن تنظيم «داعش» وحلفاؤه أجلها بعد ذلك بوقت قصير. وظل رئيس الحكومة السابق، برغم تسمية خليفة له ونيل الأخير مباركة واشنطن وطهران على السواء، يواجه طواحين الهواء ويرفض الإقرار بالوقائع الجديدة في الميدان السياسي.
أصبح المالكي بذلك في خلفية المشهد برغم استمراره في المناكفة، أو أضحى ورقة رديفة في أحسن تقدير.
بيد أن استبدال الرجل بآخر ليس ذا مفعول سحري، ولا هو حلٌ تلقائيٌ لما آلت إليه الأمور في العراق. إذ ثمة ما يستدعي تعديلاً عميقاً في أسلوب التعاطي مع الوقائع من قبل رئاسة الحكومة أولاً وسائر الطاقم السياسي ثانياً، حتى يُتاح للبلاد أن تعيد جمع نفسها وتضع حداً لتحولها إلى مساحة للاقتتال ومكبِّ للايديولوجيات الهمجية التي لا تبقي ولا تذر.
نوري المالكي نتاج عقلية إقصاء في العراق، أعيد إنتاج مثلها لاحقاً في دول عربية أخرى (سوريا وليبيا تحديداً). هو الابن الشرعي لديكتاتورية عمّرت خمسة وثلاثين عاماً قبله، فلم يتجاوزها، بل قدم نموذجاً أسوأ منها. وهو الموظِف لأدوات الديموقراطية (صناديق الاقتراع) بمعزل عن مقدماتها الضرورية والبديهية (المواطنة ومشتقاتها والعقد الاجتماعي الذي يحظى بإجماع مكونات المجتمع الكبرى).
لا يمكن للعراق، واستطراداً لدول المنطقة، أن يؤسس لواقع جديد من غير عبور مراحل انتقالية ملزمة، تتيح إشراكاً واسعاً لقوى تعبّر عن الشرذمة وتطمح، في الوقت عينه، إلى تجاوزها، وهو ما لم يحصل في عهدي المالكي.
المشهد السياسي العراقي اليوم، بأدبياته السائدة، أقوى حليف لـ«داعش» وأشباهه. والخلل الذي أنتج هذا التداعي أبعد من شخص اسمه نوري المالكي، إذ إنه نهج وأداء وخطاب، لا تصلح معها حياة ذات معنى، على امتداد مساحة العراق.. ومعه المشرق المحيط.

السابق
في مخيم اليرموك.. بيانو وكلمات تغني المعاناة والأمل
التالي
ما بعد ’فتوحات’ إيران