في إسلام ‘داعش’ … ‘الحقيقي’

يطيب لعدد من الكتاب إصدار أحكام مبرمة على الإسلام خصوصاً بعد نجاحات تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام – داعش» وتمدده في المنطقة الواقعة بين الأنبار وريف حلب. مضمون الأحكام ينطوي على موقف معادٍ عداء صريحاً للدين الاسلامي ونسبة ممارسات «داعش» الظلامية اليه. ويذهب هؤلاء الى ان ما تقوم به «الدولة» هو الاسلام الصحيح ودليلهم على ذلك ان الفتاوى التي تصدر عنها تستند الى آيات قرآنية واحاديث نبوية صحيحة وأنها بذلك تنتمي انتماء لا لبس فيه الى الاسلام الحقيقي.
اقل ما يقال عن هذا التشخيص انه ليس مقبولاً ممن يملك ناصية ولو متواضــــعة من الاطلاع العام. فما يقولون خاطئ خطأ لا ريب فيه. ليس من الناحية الدينية وحدها بل من الجانبين المعرفي والتاريخي خصوصاً.
ولسنا معنيين هنا بالدفاع عن الاسلام وعقيدته ومنظمة قيمه، فلهذه المهمة اربابها ودعاتها، بل ما يهمنا هو تناول الجانبين الآخرين من المقولة.
من الجانب المعرفي، يدرك كل دارس للاسلام أنه عصي على الحصر في وعاء واحد وإطلاق حكم نهائي عليه. التشعبات المذهبية والحركات والملل والنحل التي ظهرت فيه كدين منذ عقوده الاولى، من التنوع والتعدد بحيث تجعل أي صفة تبحث للاسلام عن شمول ما او عن كلية ما، مجرد لغو. في وسع كل فرقة اسلامية ادعاء الحق والعصمة ونسبة نفسها الى الفرقة الناجية وتكفير الفرق الأخرى وتبخيس معتقداتها، وهذا يجري في التاريخ الاسلامي منذ الاعوام الاخيرة للخلافة الراشدة والعهد الأموي على أقل تقدير، من دون ان يقبل أي من اطراف السجال الاعتراف بالخروج من الاسلام. ويبدو ان الأمر سيستمر الى قيام الساعة.
أبعد من ذلك، ظهرت المذاهب السنّية الاربعة والمذاهب الشيــــعية في اطــــار فقــــهي شديد التنوع، ارتكـــز بعضه من دون شك على خلفيات قومية وعــــصبية (حتــى ضـــمن الــمذاهـــب السنية) لكنه اندرج عموماً في اطار بحث عن حلول تتعلق بتدبر الحياة اليومية والمعاملات والعلاقات الاجتماعية مع جماعات غيـــر اســلامية.
فقـــه القتال والحرب كان يظهر في اوقات الحـــروب والأزمات الســـياســـية، ثم يخبو وهجه مع تبدل الاحوال. انتشار المذهب المالكي في المغرب على سبيل المثال جاء تلبية لحاجة واضحة إلى مرجعية وسطية بعد سقوط دولة الموحدين التي بالغت في أدلجة الدين. ويجوز التوسع في هذا الحديث عن المذاهب الاخرى ونجاحاتها في مناطق من دون غيرها لأسباب موضوعية أكثر مما تتعلق «بقيمة» هذا المذهب او ذاك على المستوى الفقهي والنظري… الخ.
على لوحة شـــديدة التعــقيد مثل لوحة تطــور المجـــتمــعات المســلمة طــــوال أكثر من الـــف عام، تبدو عبـــثية مهمة وضــع تــعريــف جــامــع للاسـلام، خارج أطره العقدية الايمانية الكبرى.
من الجانب التاريخي، يفترض بكل قارئ للاسلام ان يلاحظ التداخل الشديد للعوامل الدنيوية في بناء الدولة الاسلامية منذ ايامها الاولى. وحتى قبل الصراع القبلي المكشوف في سقيفة بني ساعدة، يتعين القول ان الشخصيات الرئيسة في البيت الأموي لم تكن لتُمنح تلك المكانة والحظوة الكبيرتين وتتولى مهمات عسكرية وسياسية رئيسة، لولا أهمية بني أمية القبلية. وهذا ما تقوله كتب الســيرة، على أي حال، من دون لف أو دوران.
المواءمة بين المركز القـــبلي والمـــوقع في الدولة كانت السمة الغالبة للعصر الاموي الذي انقــــضى في اقتتال قبلي وانتقال العــداء اليمني القيسي الى ارض الشام والعراق واتخاذه هناك شكل حروب ضروس بين تحالفات قبلية على غرار ما جرى في معركة مرج راهط، من دون ان تكون السلطة والخلافة في منأى عن اطماع الاحلاف العشائرية. وليس سراً ان الاحتراب القبلي هو الذي انهك الدولة الاموية وتسبب بموتها المبكر.
وعندما يقول البعض ممن يعتبر نفسه في الخندق المعادي لـ «خلافة» ابي بكر البغدادي ان الاسلام هو ما تقوم به «داعش» عليه ان يسأل نفسه ايضاً عن الاعوام الألف والأربعمئة التي تفصل بين ظهور الاسلام واليوم، وعما كانت تفعله المجتمعات العربية في هذه الفترة المديدة. بكلمات ثانية، ان الحكم على صحة اسلام «داعش» ينطوي على حكم آخر بثبات المجتمعات العربية في حالة سكونية مدة خمسة عشر قرناً، لم تعرف خلالها بنية المجتمعات هذه اي تبدل او تطور او تقدم ولم يتغير شيء في فهمها العالم ولا في رؤيتها الى محيطها ونفسها ولا الى دينها وفقهها.
حكم بهذه القسوة ليس من حق احد ان يطلقه في الوقت الراهن. وهو، بدوره، لا يمكن أن يصدر عن باحث يتحلى بحد ادنى من الجدية. دعوا جانباً الكتابات التي ظهرت بعد احداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001، عن الاسلام في حقبة ما بعد الحداثة والآثار العميقة التي تتركها العولمة على المجتمعات المسلمة (جان بودريار، على سبيل المثال)، ولنترك للحظة كتابات احمد رشيد عن الاسلام القبلي في المناطق المهمشة من كابول الى حضرموت الى سيناء. فهذه الكتابات، على رغم عمقها وأهميتها، لا تــدعي الاحــاطة بظاهرة في اتساع الدين والتاريخ الاسلاميين.
ولا مفر من القول إن الاسلام في وضعه الراهن لا يستسلم لأي حقل معرفي مفرد، وان على من يرغب في مقاربته تبني ادوات متقدمة في التحليل ودرجة عالية من الجرأة الفكرية. لكن مع ذلك، ثمة من تسول له نفسه استسهال احكام قاطعة يشخص فيها ببضع كلمات مآلات ومصائر بشر وثقافات وحضارات. هزلت.

السابق
القضية المأزق: ‘ما يتقتلوا… إحنا مالنا’!
التالي
المالكي يتحدى رسائل المرجعية و ‘حزب الدعوة’ مهدد بانشقاق