سيرة حزبية 12: الرفيق غسان، الشيعي الشيوعي

أثناء التدريب العسكري الماضي، أنتبه إلى الرفيق غسان؛ ألاحظ استعداده لتنفيذ أوامر الرفيق بحذافيرها، من دون تلكّؤ، أو عبوس، أو شيء من النفور من هذا الانضباط الجديد، الثقيل علينا كلنا، إلا هو؛ يكابد الإرهاق أثناء الركض، يعطي كل انتباهه إلى التعليمات، يحتفظ بقوته مهما ثقلت الشمس، أو عطش؛ أنسُب كل هذه الطاقة إلى جسمه الرياضي المفتول العضلات، الطويل العريض، يفاجئك بمرونته وخفّته. لكن في وجهه ما يشي بأكثر من ذلك؛ أتذكر كيف برقت عيناه، كيف قفز من مقعده فرحاً عندما أعلن الرفيق عماد عن بدء دورة التدريب العسكري، كأن الموضوع شخصي جداً. كلنا متحمسون، مقبلون بروح ثورية عالية على مهمتنا الحزبية الجديدة، لكن الرفيق غسان أمر آخر، بجموحه وروحه الوثابة.

كل هذا لا يكفي لتفسير شغفه العاصف. فأعود بذاكرتي إلى اجتماعنا الأول، والقصة التي رواها لنا غسان عن شقيقه الشهيد فيصل، وكيف كان استشهاده نقطة تحوّل في حياته، تلك التي جلبته إلى المنظمة. ولكنني أحدس بأن الموضوع سابق على هذه اللحظة التي يصفها بالـ»منعطف في حياتي». أريد أن أقترب منه، يثير فضولي، أريد أن أعرف ما يحرّكه، ما يمنحه كل هذا الإقبال على النضال العسكري. هي الرغبة غير الحزبية هذه التي تجعلني «أخرج» معه للنضال الآخر، العمالي، بحثاً عن عمال ننسبهم إلى منظمتنا، أو إلى جماهيرها العريضة. بين محطة نضالية وأخرى، نتبادل أنا وغسان قصص حياتنا وبيئاتنا وتربيتنا وأخوتنا وأهلنا.

الرفيق غسان لا يتردد في قلب منظمة علمانية أن يقول عن نفسه انه «شيعي شيوعي»، وانه بذلك يمكن اعتباره «مثقف عضوي»، أو «مناضل عضوي». أسمع هذه الكلمة للمرة الأولى، ومعها إلى صاحبها أنطونيو غرامشي، القائد الشيوعي الإيطالي، صاحب «دفاتر السجن»، والمفاهيم الشيوعية الجديدة المثوِّرة. «شيعي شيوعي»، يعني انه، بحكم كل تفاصيل حياته، معني بالنضال، وبالقصص التي تدعمه. مسألة حرب التحرير الشعبية المسلحة عنده موضوع شخصي مباشر؛ إسرائيل يعرفها، يتكبدها بلحمه ودمه وأرزاق أهله، يومياً، دورياً، بلا هوادة. «أفرغت الجنوب من الناس والرزقة، أفقرته». كيف لا يلهث خلف النضال ضدها وهي تقتل وتجرف وتدمر؟ يسأل بلهجته الجنوبية «العاملية»، يقول، ليحدد هذه الشيعية بالذات، المختلفة عن الشيعيات البقاعية أو الجبيلية.

«مناضل عضوي» أيضا عندما تتبنى المنظمة توجها جديداً، «التمحور العمالي»، لا يراها حياداً عن الأهداف، التي تعنيه، شخصياً، كما في النضال ضد إسرائيل. في بيته، في الشياح، المليء بالأولاد، أخوته الصغار والكبار، يمكنني أن أتصور ما يرويه لي بأوضح الصور. والده، أبو علي، رجل له بنية غسان نفسها، الطويلة العريضة. يختلف عنه بوجهه وطلته، كأنه إله إغريقي مقبل عليك، بعيونه الخضراء النافذة وملامحه الدقيقة وسماره البرونزي. جاء إلى بيروت بعد زواجه مباشرة من أم علي. وبفضل وسامته هذه دخل سلك الشرطة الجوالة على الدراجات النارية الأنيقة. كثرة الأولاد تملي على أبو علي حياة تقشف ومرارة، لا تيسرها غير الطلعات إلى القرية أثناء عطلة الصيف، حيث تقوم أمه بجمع المونة وبمشاركة أخواتها في شك التبغ. «حرمان مزدوج يعاني منه الشيعي»، يقول غسان، «حرمان من العيش الهنيء ومن حماية أراضيه». وهذا ما يدفعه أن يكون شيوعيا بالـ»سليقة»، كما يردّد، وينخرط في «النضالين الوطني التحرري والطبقي». هو مناضل عضوي، يتابع، لأنه يحفظ أقوال علي بن أبي طالب، يكرر أقواله «إذا رأيت مظلوماً فأعنه على الظالم«، أو «من نصرَ الحق أفلح». ويروي قصة أبو ذر الغفاري، الذي ثار مطالباً بحقوق «الأكثرية الساحقة من المعدمين»، صديق علي بن أبي طالب، «هو الذي عرّفه إلى الرسول»، هو أيضأً الذي نفاه عثمان بن عفان إلى الشام، حيث أمعن معاوية باضطهاده. أبو ذر الغفاري، المتقشف، الزاهد، «أول اشتراكي شيوعي في تاريخنا»، يؤكد الرفيق غسان. لذلك ترين الشيعة كلهم داخلين في أحزاب تقدمية، إنهم أول المتضررين من كل شيء: من النظام الطائفي الذي يحرمهم من حصتهم، من النظام الطبقي الذي يستغل العمال، وهم يشكلون غالبيتهم، من إسرائيل، من الإمبريالية التي تدعمها… أخوالي وأعمامي هم الذين ربوني سياسياً يقول: لا أذكر صيفية انتهت بالوئام بينهم. تقدميون صحيح، ولكن من اتجاهات مختلفة. منهم البعثي والقومي والشيوعي، عندما يجتمعون، في آخر النهار في بيت عمي حسن، الذي تسع شرفته للجميع، ويبدأ «النقاش»، يمكن القول ان السهرة فسدت. يبدأ الكلام لطيفاً، راقياً، واستعداد طيب للموضوعية، ثم شيئاً فشيئاً ترتفع الأصوات، وتكون النقطة نفسها التي يختلفون عليها: كيف يتحررون؟ بالبعث أو القومية أو الشيوعية…؟ كلهم يريدون الخير لأهل الجنوب، يريدون إزالة إسرائيل ورفع الأجور ومحاربة الطائفية… ولكن كيف؟ حسناً، وإذا اتفقوا على حرب التحرير الشعبية، طلع صراخهم عندما يصل الموضوع إلى الكيفية: كيف يتمولون؟ كيف يتحالفون؟ كيف يخططون؟ فيعود الصراخ ثانية، ولا تنتهي السهرة إلا ويكونوا قد تخاصموا، وتطاولوا على بعضهم، وأحياناً تحصل قطيعة بين هذا أو ذاك من الأخوال والأعمام، تعود النساء فتكسرها بسهرة على شرفة محايدة… نسبياً. هكذا، يتابع غسان، كل صيفية يتطور النقاش بين أعمامه وأخواله. حتى يصل إلى صف البكالوريا قسم أول، وهنا يبدأ بالانتباه إلى ابن خالته فؤاد، الأكبر منه بثلاثة أعوام، وقد صار شابا متزنا، يدخل في حلقات النقاش العائلية بدماثة وثقة، يطرح وجهة نظر جديدة، يهمل الحساسيات التي بين البعثي والقومي، ولا يعلق على التفاصيل «العقيمة»، «عديمة الجدوى»، ثم يدخل في شرح بسيط لخط المنظمة، من دون تعالي. «ولما يتعالى؟» أسأل غسان. «تعرفين، في بيروت، في الجامعة، يقولون إن أعضاء المنظمة مغرورون، يرون أنفسهم أصحاب جماهيرية وثقافة، يتصرفون وكأنهم فوق الغير…». المهم الرفيق فؤاد هو صلة الوصل الأولى بين غسان والمنظمة.

وغسان هو الوحيد من بين أعضاء الحلقة الذي يدخل الجامعة ليتخصص بالفيزياء. مادة علمية جافة، نظرية أكثر من اللزوم، لا جاذبية لها عندنا، نحن المنكبون على الفكر الماركسي الجديد والقديم، والأدبيات الدائرة الداعمة له، أو المناقضة لأطروحاته. لماذا الفيزياء بالذات يا غسان؟ لأنها تتيح له أن يتخصص في الطاقة الشمسية في الخارج، إذا حصل على منحة، وسوف يحصل، لأنه جاد… فيعود بعد ذلك إلى الجنوب، وينشئ فيه مشاريع إنمائية تمد قراه بالطاقة فيزدهر الجنوب، ويغتني، ولا يعود أهل جبل عامل محرومين من بين اللبنانيين، فقراء هاربين.

مع غسان، بلهجته الجنوبية «العاملية»، أشعر بنوع من الألفة والتعاطف التلقائي، لا أدرك بداية منبعها، أو لا أريد أن أدرك. ربما لأنني في منظمة علمانية، تتنكر لانتماءات أعضائها الطائفية، كأنه عيب سياسي يجب التخلص منه. ولكن لا بد أن أعترف لنفسي بأن قصص غسان عن عالم القرية والأهل وعلي بن أبي طالب وأبو ذر الغفاري والطائفة والتراث… يرقّ لها قلبي، كأنني عشتها أو سمعتها. وبأن هذه العوالم التي يحضرها بلهجته وعاطفته وكبريائه، هي، بجزء منها، من عالمي، من عالم أمي، «المتوالية»، التي تحب الإقطاعي كامل الأسعد، وتكره المقاومة الفلسطينية؛ ولكنها شيعية بكل شيء، بلهجتها، باعتزازها بشيعيتها و»عامليتها»، بشغفها الذي لا يرتوي بالحياة، بالقصص الكرْبلائية التي تملأ بها أوقات فراغنا، بالحسين الذي لا تتوقف عن نبش قبره كلما ضاقت بها الدنيا، بلهفتها للفقراء الشيعة، بالخدمات الطبية التي تقدمها لهم عبر قراءتها للوصفات الطبية المكتوبة بالفرنسية أو الانكليزية… وبأشياء لا تنتهي، تشبه الرفيق غسان.

(اليوم، مع هذا الولاء الجارف لأبناء الطائفة الشيعية لحزب الله أو لرديفه الذي لا يقل عنه طائفية، أي حركة «أمل»، يصيبني أحيانا الحنين إلى لهجة ، أو نبرة «عاملية»، مثل تلك التي كان الرفيق غسان يطربني بها، أبحث عنها في طيات كلمات أو ألفاظ… فلا أجدها. فقد ضاعت بين لهجة متعالية مستقوية بنفسها، وأخرى تريد أن تنساها، تريد أن ينسى سامعها إن صاحبها شيعي. يحزنني هذا التحول؛ في اقل من عقدين من الزمن، انقلبت مضامين اللهجة ومتونها: انقلاب نقلها من روحها الفوارة، من حمى شغفها بالعدالة وتمردها على الاستكبار، إلى كونها تعبيراً عن استكبار، استقواء جديد، طغمة جديدة، وثأر جديد على ظلم قريب، بعدالة ظالمة وحرية مقبوض عليها، وبالعصبية الأشد من تلك التي كان غسان في طليعة من كرهها).

السابق
آلاف الفلسطينيين يفرون من الشجاعية في غزة
التالي
«الجديد» في أسوأ تحقيق لغسل سمعة من قال «أضربه يا عباس»!