المونديال والخليفة

أيام المونديال لم تتشابه. تخلّلتها مفاجآت كروية. هذا الفريق العريق يخرج من البداية، أو في النهاية، وذاك الآخر، يسجل تفوقاً غير معهوداً… وأشياء من هذا القبيل. لكن الذي أخلّ بمزاج متابعيها الرائق هي تلك الطلّة البهية لخليفة المسلمين الجديد، رئيس “الدولة الإسلامية” الوليدة، أبو بكر البغدادي. فبدا، في زمن واحد، عصر واحد، وكأننا نعيش عدة عصور: عصر المونديال وعصر الخلافة، وما بينهما من ثورة تكنولوجية متعوْلِمة.
ففيما المونديال هو ثمرة اختراع حديث، تطورت بصراحة قوانينه وطُرق بثه وتصويره بفضل اعتماد أعلى فنون هذه التكنولوجيا… دخل الخليفة على الخط بزمن معلن وآخر ضمني: المعلن هو ما يعود إلى ما يقارب ألف وخمسمئة عام، عندما كانت الدعوة المحمدية في أول تجلياتها؛ يعتمد ما يعتقد انه وقفة رسولية، بلباس ولحية رسوليتين، ويدعو بحجتهم إلى الطاعة أو الموت. الضمني من هذا الزمن لم يتمكن الخليفة الجديد، المتوَّج ذاتياً، أن يحجبه؛ فكانت تلك التكنولوجية الناطقة، والأخرى الصامتة. لم يخرج الخليفة الجديد من عصره، لا بساعته الرولكس البرّاقة من بعيد، ولا من المايكروفون (هل نطق بهذه الكلمة، “المايكروفون”، عندما أشرف على التحضيرات للشريط؟)، ولا بطبيعة الحال كل التجهيزات الصوتية والمرئية من أشرطة وكهرباء وشبكة الكترونية، احتاج إليها لنشر رسالته الإلهية. كأنه يقتحم زمناً متجاهلا زمنه، عاجز عن التخلي المطلق عنه، هو المحبّ للمطلق. والمونديال من هذه الزاوية، اقتصر تفويته لزمنه، المفترض انه غير بربري، على عضّة من هنا، وضربة بالكوع من هناك، أو فرْكشة من هناك، أو فرض أمر واقع… وكلها أعمال لطيفة ردعتها قوانين اللعبة بحزم عندما تمكّنت من ذلك.
المونديال والخليفة يتشابهان، أيضاً، بثروتهما التي لا تقدر بدقة، نظراً لغموض مصدرهما أو عدم شرعيته: المونديال بـ”الفيفا”، المنظمة العالمية الممْسكة بزمامها، الغارقة بالفساد وبتسعير الأنشطة الاستهلاكية المجترّة لزمنها. والخليفة بالخطف والسرقات و”الغزوات” وبالدعم المشبوه الذي لاقاه من جانب أشخاص أو هيئات لا نعرف عنها الكثير، سوى بضعة تلميحات وهمسات. الثروة الطائلة، هي التي مكّنت الإثنين من التواجد على يوميات شاشاتنا، وإن كان تواجد الخليفة يعتبر خاطفاً، تكلّله أعماله البربرية، مقارنة بتواجد المونديال شبه اليومي لما يقارب الشهر. تواجد مدروس وذو إخراج مسرحي فني: وإن كان المونديال يتفوق على الخليفة، هنا أيضاً، بجمال إخراجه ودراماتيكيته اللذيذة، فيما إخراج الخليفة، رغم الجهود البائنة التي بذلت ليكون تسويقاً ناجحا لبطلها، بدا مزيجاً من التراجيديا والكوميديا. المونديال أثار التشويق والإنتباه والمتعة عند “الغول”، فيما الخليفة أثار الخوف والرعب والسخرية من الإدعاءات النبوية… بدا كأنه ينافس طرفاً ثالثاً، تزامن مع المونديال، أي المسلسلات الرمضانية، خصوصا “التاريخية” منها.
ولكن بعيداً عن الذين لا يستسيغون فكرة الخلافة نفسها، وقريباً ممن هم مستعدون للإيمان بها، ولا ينقصهم سوى “التمكين”، فان الاثنين، أي المونديال والخلافة، جندا لماكينتهما مشجعين أو “أنصار”، على درجة عالية من الشغف والإندفاع؛ مع الفريق الرياضي، يغني المشجعون، يرقصون، يصيحون، يمارسون “التزْيرك”، الخفيف الظل، المسلّي، المضحك، رغم عواطفهم الجياشة؛ فيما مشجعو الثانية، الخلافة، لا يقبلون أقل من القتل وفنونه سبيلاً لربطهم بغيرهم وبأنفسهم.
ذلك أن المونديال هو لعبة اخترعها البشر، ووضعوا قوانينها، وسعوا إلى احترامها، فيما الإدعاءات النبوية للخلافة لا تعترف بزمنية قوانينها، وتنصِّب نفسها وصية على الإرادة البشرية بأن تملي عليها قوانينها الإلهية. لذلك فان المونديال يسلينا يشوقنا يحبطنا ويفرحنا، ولا يرغم إلا المأخوذين باقتصاده على استهلاك البضائع غير الضرورية التي يروّجها…
ولا يوقظنا من فراشنا ليقول لنا بأن الموت قد اقترب منا، صار على بعد مئتي كلم… كما تفعل الخلافة التي تسُوقنا بالقوة نحو الخضوع لبلاهتها، أو الموت صلباً أو شنقاً أو قطعاً للرأس أو بالرصاص. لعبة التسلية غير البريئة دائماً، من جهة المونديال، مقابل لعبة الموت الحتمي، من جهة الخلافة. بديهي، في هذه الحالة أن تكون مهارات أبطال الاثنين، بل عددهما، متفاوتة مختلفة: مهارات المونديال خفة وفن تصويب وطاقة ذهنية وجسدية؛ فيما مهارات الخلافة قتل وهيمنة و.. و… وبطلها واحد لا غير، مطلق، هو أبو بكر البغدادي،
لا ينافسه عليها إلا من هو مستعد للقتل أو الموت؛ فيما أبطال المونديال، الحاليون والسابقون عديدون، مارادونا، بلاتيني، بيليه، زيدان، رونالدو، ميسي، نيمار… وجميعهم شباب يركضون بلا هوادة، ويركلون، يقعون، ينهضون، يصيبون، يخفقون، يتناغمون، يشردون، يرقصون؛ والتصوير البطيء لحركتهم، الفني ومتعدد الزوايا، يحمِّل أجسادهم أبعاداً جمالية سينمائية؛ بخلاف جسد الخليفة، المتثاقل، القديم، الفضفاض.
لكن الإثنين يستحقان في النهاية لقب “أفيون الشعوب”؛ الأول، المونديال، لأنه قادر على تعبئة طاقات الملايين من بيننا، وربما المليارات، على خطف نظرهم وتجنيد تركيزهم واهتمامهم خلال شهر من الزمن، على نسيان أشيائهم المباشرة، الحيوية، المصيرية… والثانية، الخلافة، فقادرة، بحجتها الإلهية، أن تشلّ هذا الإنتباه والإهتمام واليقظة، بعنفها البدائي، وبطقوسها القسرية، وبمشهديتها… لا نحتاج ساعتئذ سوى إلى بضعة غرامات منها، لكي ننسى أننا أبناء زمننا، أو أننا بني آدم وحواء.

السابق
إفطار جامع لـ’ربانيون بلا حدود’
التالي
اليونيفيل: إطلاق الصواريخ خرق خطيرا لل1701 وتقويض للاستقرار