هندسة الحروب الأهلية

يرسم العنف والدم حدوداً عازلة بين جماعات مصيرها أن تعود وتعيش سوية. تاريخ هذه المنطقة حافل بالحروب الأهلية بأشكالها الدينية والطائفية والعرقية والجهوية وسواها. رغم ذلك كله تشكلت في كيانات سياسية قروناً أو عقوداً ثم انتظمت في هويات كبرى كان آخرها الهويات القومية الجامعة للعرب والترك والفرس. فلا الكيانات السياسية حفظت الوحدة بين أبنائها، ولا الهويات القومية أو الدينية أو الحضارية بالمعنى الأشمل لكل العناصر التي تتشكل منها، عبر التراكم والتفاعل، الشخصية الوطنية الحديثة. الحروب الدائرة الآن في بلاد العرب هي نفسها يمكن أن تندلع في بلدان أخرى إذا كان العنصر المقرر فيها هو هذه الهويات الدينية والطائفية. تبدو المشكلة الآن “مشكلة عربية” لأنها تتصل بأزمة الاجتماع السياسي العربي.
المسألة في العمق هي مسألة الدولة بكل أبعادها وتجلياتها، أكانت الدولة التي لم تنجح في احتضان مكوناتها القومية والدينية والطائفية، أو تلك التي أحدثت “طوائف اجتماعية” بامتيازات وحرمانات وشكلت عوامل انقسام وصراع تمظهر في حركات سياسية طائفية. الدين نفسه حين يكون هوية ثقافية واحدة لشعب، كما في بعض البلدان، ويستخدم في شكل أحزاب سياسية يتحول إلى طوائف. المعطى الديني “الأصلي” وهو غير “الأصولي” أنشأ وينشئ عبر التاريخ ثقافات وهويات وجماعات مختلفة، انطلاقاً من حاجة هذه الفئات إلى الرأسمال الديني الرمزي وتراكمه في الوجدان الشعبي لتحقيق أغراض ومصالح سياسية.
دخلت المنطقة في دائرة الفعل التقسيمي بحدود جغرافية أو بغير حدود جغرافية ليس لاستحالة موضوعية لعيش الجماعات معاً بكل هوياتها المختلفة. عملياً المنطقة تتجه من “الوحدة” أو شكل من أشكالها إلى التقسيم. ما كان يطمح إليه العرب من وحدة كيانية أوسع أو دولة تطابق حدود الأمة وتجمع مكوناتها صار الآن طموحاً إلى التعايش داخل كيانات الدولة الوطنية أو القطرية. التكفير المصحوب بالعنف ليس “اختراعاً” حديثاً طارئاً على الفكر الديني ولا على “تاريخنا”، ولو أنه يتقوّى بالتكنولوجيا الحديثة. التكفير هو لغة الصراعات السياسية الذي تمارسه حركات دينية سياسية، وهو المقابل للغة الإقصاء والإلغاء والتهميش والتخوين التي مارسها “الفكر العلماني”.
أسباب النزاعات الأهلية والعنف في العراق وبلاد الشام وتصاعد الفكر التكفيري تتلخص في ثلاثة عناصر: الاستبداد، مال النفط وطموحه إلى دور سياسي انطلاقاً من ثقافة متخلفة، الإسلام الأصولي السياسي الذي صار مشروع المهمشين في عالم يدير الظهر لكل مظلوميات الشعوب وأوجاعها. لكن ذلك كله لا يفسر وحده حجم القوة والآلة الضخمة والتمويل والتسليح والتسهيلات التي جعلت من هذه الحركات في صدارة الأحداث والأكثر فاعلية فيها. جرى احتضان وإدارة الإسلام الأصولي فكراً وتنظيماً وتمويلاً من دول إقليمية وعالمية وجرى استخدامه بوصفه شركات أمنية أو جيوشاً خاصة تعمل في الخطوط الخلفية لحروب التدخل الكبرى.
المشهد العراقي الأخير أكبر دليل على أن هندسة جغرافية سياسية حصلت رداً على هندسة جغرافية سياسية أخرى. فتحولت صراعات خطوط الطول إلى صراعات خطوط العرض من جنوب سوريا والعراق إلى شمالها. يخدم هذا المشهد خيارات عدة من التقسيم إلى تظهير معادلات وموازين قوى جديدة يجري التفاوض عليها.
اللافت هو أن الشريك الأميركي لإيران في العراق نفض اليد من تغطية دورها فيه وهو يدعو إلى حل سياسي في العراق وسوريا ويعطي رسائل تطمين إلى الخليج العربي بدعم “المعارضة المعتدلة في سوريا” وبرفض التدخل لمصلحة حكومة العراق. ليس واضحاً كيف سيتم تعامل القوى الإقليمية والمحلية مع المعادلات الجديدة خارج التصريحات والمواقف الإعلامية. فالتصعيد السياسي الطائفي لم يترجم على الأرض بما يوحي بأن الجغرافيا قابلة لتغيير سريع. لسنا من القائلين إن التقسيم الحالي هو نهائي أو هو خط بياني صاعد في “المشروع الغربي” بل هو يصبح كذلك في ضوء حركة الدول الإقليمية، إذا هي لم تعرف كيف تخسر جزئياً بعد أن ربحت جزئياً. في خارطة العراق وبلاد الشام الكل يحاصر الكل وآفاق التوسع وفتح الثغرات محدودة جداً. أما حركات الإسلام الأصولي فهي تحت السيطرة من مرجعياتها مهما بالغ المبالغون. الجميع الآن في قبضة الدول التي لا تخفي رغبتها في إنهاك جميع الأطراف وجلبها إلى طاولة مفاوضات مع استشعارها بخطر نوع من الحروب الأهلية قد يصل إلى بلادها. وفي هذا السياق تتصاعد العمليات الأمنية ومنها موجة الإرهاب في لبنان لبعث رسائل تقول ان لا أحد لديه ضمانات ولا حمايات ولا تحصينات بالقدر الذي يتوهم وهو يلعب في ساحة دولية لديه كل هذه التقاليد والتجارب والخيوط والخطوط والمصالح والإمكانات.

السابق
سفير فنلندا يتفقد اليونيفيل
التالي
أين يقف العامل الديني في التحوّل الأميركي؟