لنزحفْ جميعاً إلى بعلبك

ليس سهلاً أن تقرأ أو تشاهد على الصفحات الأولى في الصحافة اللبنانية هذه الأيام خبراً محلّياً يستحق أن يكون في صدر الصفحة الأولى مضموناً أو حجماً أو استهدافاً، ليس ذلك سهلاً وسط جلبة الأخبار المضخّمة ولا أريد أن أقول التافهة ولو المثيرة.

خبر وصورة “إعلان لجنة مهرجانات بعلبك الدولية” ووراءها أعمدة القلعة السبعة عن عودة نشاطاتها إلى رحاب القلعة، اللذان احتلّا صدر الصفحة الأولى في بعض الصحف، هما من تلك الأخبار التي تستحق أن توصف بـ”الحدث” بل الحدث الكبير.
إنه حدثٌ كبير بأكثر من معنى.
هو أولاً، أيّاً تكن كواليس قرار العودة إلى مدينة الشمس، انتصارٌ لمعنى التنوّع الثقافي بل الحضاري في زمن طغيان ثقافة الأُحادية الدينيّة الأصولية والتكفيرية الدموية في أجزاء واسعة من العالم العربي والعالم المسلم.
وهو ثانياً، انتصارٌ ثقافي للبنان يجعل مساحة المهرجانات المتعددة في مناطق أخرى كبيت الدين وجبيل ببعض برامجها ذات المستوى العالمي كما ربما صور وطرابلس وغيرهما تتّسع على كل المساحة اللبنانية وبذلك فهي تعيد توحيد هذه المساحة ثقافيا وهي المفتّتة سياسياً بين دويلات ما أصبح عليه النظام السياسي اللبناني. التنوّع كقوة توحيد.
وهو ثالثا مساهمة في عودة السلام إلى البلد المدمَّر سوريا. فبدلاً من الرصاص والقذائف التي اعتادت بعلبك في السنوات الثلاث ونيّف المنصرمة أن تسمع أصداءها الآتية من الحرب (الأهلية الإقليمية الدولية) السورية من خلف تلال ومرتفعات السلسلة الشرقية أو عبر السهول الشمالية… بدلاً من ذلك ستُرسِل بعلبك عبر مهرجاناتها موجاتِ الموسيقى والغناء والشعر ومن فوق هذه التلال نفسها لكن بالاتجاه المعاكس… من لبنان إلى سوريا… كأنما سيهتف لبنان، كل لبنان، بلسان صاحب الجلالة سعيد عقل: “شآمُ أهلوك أحبابي…”. هكذا يستبدل بعض اللبنانيين مشاركتهم في التقاتل المذهبي مع وإلى جانب فريقي الصراع بأن يكونوا شهودا على رسالة السلام من فوهة الثقافة الراقية. هذا رغم المفارقة الساخرة الكامنة في أنه ما كان ممكناً من الناحية الأمنية حصول المهرجانات على أرض بعلبك لولا تقدّم قوات النظام السوري في جبال القلمون وشبه حسمها للمعركة هناك!
المهرجانات المعلن عنها أو المتوقعة في مختلف المناطق اللبنانية وعلى مستويات متفاوتة من شأنها أن تكسر هذا الصيف الظاهرة التي شهدها الصيف الماضي والتي جعلت الأنشطة السياحية والثقافية الكبرى ومعظم الصغرى تقتصر على المناطق ذات الكثافة أو التجمعات السكانية المسيحية. وهو ما أسميتهُ في مقالٍ سابق “الانفصالية السياحيّة المسيحيّة” (7 أيلول 2013). أما هذا العام فلا “نستعيد” بعلبك فقط بل بدأنا بـ”استعادة” طرابلس قبل ذلك، وربما صيدا وصور.
أما رابعاً فأريد أن أتوقّف عند موضوع يحتاج إلى صبر القراء معي ولو الصبر الوجيز.
كثيراً ما يُستخدَم تعبير “لبننة حزب الله”… في بلد تحتاج في الواقع كل قواه الأساسية وحتى غير الأساسية… إلى اللبننة وبينها في المقدمة “حزب الله” عند الشيعة كما غيره عند السُنّة والطوائف الأخرى. سياسيّاً إذن الأمر يشمل الجميع ولا يخصّ جهةً واحدة. لكنْ ثقافياً الأمر يخصّ في هذه المرحلة تحديداً قوى الأصولية الدينية بتنوّعاتها المذهبية والتي لا تزال تتدرّب داخل بيئاتها الخاصة على التعامل مع التنوّع وعلى التسامح معه بسبب ضغط الأولويات السياسية أكثر مما هو فعلاً قبوله. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أسمح لنفسي بالقول ان أحد المعاني الضمنية العميقة لقرار عودة نشاطات مهرجانات بعلبك إلى أرض بعلبك هذا العام بالذات هو أنه بمثابة “لبننة ثقافية” لـ”حزب الله” بالاتجاهين: تكريسُ قبوله للتنوّع اللبناني، وهو تكريسٌ، إذا كان طوعياً وليس اضطراريّاً، سيعني بالمقابل تكريس ثقافة المدرسة الفكرية (الخمينية) التي ينتمي إليها في النسيج اللبناني تماماً مثلما يمكن أن تكون عليه في صيغة سلمية المدرسة السلفية السنية بكل تنوعاتها من الوهابية إلى الإخوانية.
قد يقول قائل ان هذه المهرجانات كانت تحصل في السنوات السابقة باستثناء العام الماضي. فما الجديد؟ الجواب أنه في الماضي القريب كان شيءٌ من سوء التفاهم الضمني حاصلاً ولو بدون إعلان بين قوى الأمر الواقع وبين هذا التقليد الثقافي العريق الذي تمثّله المهرجانات. هذا العام تبدو هذه المهرجانات وكأنها حاجة وطنية لاسيما في ظل استقرار أمني نسبي تفرضه التوازنات الخارجية و”يقطفه” الصيفُ اللبناني في أمكنة عديدة، بعلبك هي الأكثر دلالةً بينها.
خامساً… لنُسمِّ طريق رياق- بعلبك، إحدى أكثر الطرق فلتاناً أمنياً، فلْنسمّها طريق الأمان من الآن فصاعداً! ولتكن اسماً على مسمّى.
بعلبك عاصمةُ لبنان هذا الصيف. عاصمةُ إصرارنا على تنوعّنا داخل كل طائفة في السياسة والثقافة وعاصمةُ كسرِ كلِّ انغلاقٍ وجاهليةٍ على المستوى الوطني، وعاصمةُ صورةٍ نريدها لأنفسنا وللعالم العربي عبرنا أو بدوننا.
… لنزحفْ جميعاً إلى بعلبك حاملين معنا شغفنا إلى أضواء ليلها الاحتفالي بل إلى ينابيع ظلمتها المتوهّجة ورسائلها الحميمة الآتية من انبلاج الشعاع الأول في السهل.

السابق
مَن يملك الشاطئ اللبناني وفقاً للقانون؟
التالي
صلاحيات الرئاسة تعطل عمل الحكومة اللبنانية