المؤتمر التأسيسي: اللحظة التاريخية المفقودة والمشروع المتعثّر

فريد الخازن

 

في السياسة، وتحديداً في الخطاب السياسي، موضة موسمية، كما في الموسيقى والأزياء والفنون عامة. وبما ان السياسة، في بعض مظاهرها، هي فن الممكن، فقد يكون المؤتمر التأسيسي، الذي صار الكلام عليه في الآونة الاخيرة موضة الموسم،فن المستحيل.

في الازمنة العصيبة يعيش اللبنانيون هاجس ايجاد المخارج لازمات هي صناعة محلية، سرعان ما تتبناها وتشارك في “تطويرها” قوى الخارج، البعيد منها والقريب. وصار اللبنانيون خبراء في ادارة ازمات شهدتها البلاد منذ اربعة او خمسة عقود. وها نحن اليوم في مرحلة الازمات المزمنة، مثلما هي الحال عند تأليف الحكومة او اقرار قانون انتخاب او انتخاب رئيس جديد للجمهورية. هكذا كان جدول اعمال مؤتمر الدوحة، وهو الاخير في سلسلة “المؤتمرات التأسيسية”، حيث اعتمدت سلّة للحل بأركانه الثلاثة: حكومة انتهت مدة صلاحيتها بعد حين، قانون انتخاب انتقالي لمرة واحدة فقط، ورئيس جمهورية انتهت ولايته بعد ست سنوات وهي غير قابلة للتمديد، خلافاً لمرحلة الوصاية التي انتهت مفاعيلها وان بقي طيفها.
اما اليوم، فهل ازمات البلاد تحتاج معالجتها الى مؤتمر تأسيسي؟ التساؤل مشروع عن المؤتمر المزعوم في الشكل والمضمون: من سيحضره او يَدعو اليه؟ أين سيعقد؟ وما جدول اعماله؟ ومن يضعه؟ ولكل سؤال تساؤلات هي بحد ذاتها عناصر لأزمات”غب الطلب”. اما كلمة تأسيسي فلن نتوقف عندها لأنها مبالغة كلامية، مقصودة او غير مقصودة، والتأسيس في الحالة اللبنانية صار من الثوابت الوطنية حيث النظام السياسي في حالة تأسيس دائمة منذ 1920 الى اليوم.
هيئة الحوار الوطني، التي انطلقت في 2006 وتحولت طاولة بلا حضور، كانت آخر محاولات التأسيس، وهي تناولت مسألة تدخل في صلب مهمات الدولة، أي الدفاع الوطني ومن يتولاه في اطار استراتيجية دفاعية ترعاها الدولة، والتي هي بدورها في حاجة الى رعاية وحماية من نظام محاصصة متكامل يعطل الدولة ومؤسساتها.
لكن في التأسيس دعوة مضمرة للعودة الى البدايات، بدءا بكيان الدولة، مرورا بالنظام السياسي، وصولا الى تحديات المرحلة الراهنة. هل المطلوب اعادة توزيع السلطة، ومعها المغانم على انواعها، أم تأسيس لخلل جديد يكون بمثابة التحضير “لدورة تأسيسية” جديدة قد تطل برأسها بعد حين؟ هل العلة في الدستور الذي انبثق من اتفاق الطائف، ام في تطبيقه غير السليم؟ وماذا عن الأبعاد الاخرى لأزمة النظام او الكيان الملازمة للواقع اللبناني السياسي والطوائفي؟
والسؤال المركزي: هل كان لبنان – الدولة والنظام السياسي – نتاج مؤتمرات تأسيسية واضحة الاطر والاهداف الوطنية، أم نتاج اللحظة التاريخية المؤاتية في محطات مفصلية، أبرزها اعلان الدولة في 1920، الاستقلال في 1943، وثيقة الوفاق الوطني في 1990، واخيراً احداث عام 2005؟
مشروع انشاء الدولة في 1920 برزت معالمه الاولى في الوسط الماروني (الكنسي والعلماني) في جبل لبنان، ولا سيما في مرحلة المتصرفية، إلا ان اللحظة التاريخية المؤاتية جاءت بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وانهيار السلطنة العثمانية، والتقت مع السياسة الفرنسية الداعمة لانشاء دولتين في لبنان وسوريا، فتم الانتقال من “لبنان الصغير” الى دولة لبنان الكبير في 1920. في 1943 تبلور طرح الميثاق الوطني في مرحلة الانتداب فتلازم مع الاستقلال في الاتجاهين: اتجاه انهاء الانتداب الفرنسي واتجاه وضع حد (مؤقت) للمشاريع الوحدوية العربية، وفي زمن التنافس الحاد بين فرنسا وبريطانيا بشخص ممثلها في لبنان وسوريا الجنرال سبيرز المناوئ الى حدود قصوى للجنرال ديغول، لأسباب غير مرتبطة حكما بأوضاع المنطقة.
في المحطة الثالثة مطلع التسعينات، وصل الانقسام الداخلي والتدخّل الخارجي الى أعلى مستوياته، فانتهت الحرب بحسم عسكري وليس بمصالحة وطنية، لكن في لحظة تاريخية مؤاتية: انتهاء الحرب الباردة والغطاء الاقليمي والدولي لوضع لبنان تحت الوصاية السورية لاسباب تتجاوز مشاركة الجيش السوري في حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي. اما المحطة الاخيرة في 2005 فتمثلت بسقوط الدعم الخارجي لتسوية 1990 بعد الغزو الاميركي للعراق في 2003، وما رافقه من انتكاسة كبيرة في العلاقات السورية – الاميركية، وصولا الى قرار مجلس الامن 1559 في 2004 ومن ثم اغتيال الرئيس رفيق الحريري. احداث اخرى ساهمت ايضا في انضاج اللحظة التاريخية المؤاتية لخروج الجيش السوري من لبنان بعد ان سقطت حالة الامرالواقع المفروض في انتفاضة شعبية غير مسبوقة في آذار 2005.
ففي حين بقي النظام السياسي على حاله بعد 2005، إلاّ ان اوضاع لبنان من الداخل ومع الخارج شهدت تغيرات جذرية، بل فان المصطلحات تغيرت: الطوائف اصبح اسمها مكونات والمنطقة صارت تعرف بالاقليم. لعل ابرز التحولات واعمقها حصلت داخل التركيبة السياسية للطوائف – المكوّنات التي لم تعد تشبه نفسها في اي من المراحل السابقة منذ الاستقلال، ولا سيما داخل “المكونين” السني والشيعي. فمن مقولة الحرمان التي اطلقها الامام موسى الصدر في السبعينيات الى المقاومة، تبدلت احوال الشيعة في لبنان وعلى وقع التحولات التي نتجت من الاحتلال الاسرائيلي لأكثر من عقدين. ومن الطائفة الاكثر التصاقا بالعروبة تاريخيا الى الاكثر التصاقا بزعامة شعبية ونفوذ مالي وشبكة علاقات خارجية فاعلة اوجدها الرئيس الشهيد رفيق الحريري. انها تحولات تلاقت مع تغيرات اقليمية كبرى في زمن الربيع العربي وتداعياته المتواصلة وفي نظام اقليمي عربي متصدع وصراع مذهبي “جامع” من المحيط الى الخليج. وعلى حدود لبنان حرب دائرة في سوريا في عامها الرابع لا نهاية لها في المدى المنظور.
المؤتمر التأسيسي، او اخواته من امثال “العقد الاجتماعي الجديد” او الطائف بطبعة جديدة منقحة هي مشاريع واهية تعالج الاوهام والاحلام على خلفية ان لبنان شاغل الدنيا، بينما الدولة في لبنان لا تزال وكأنها قيد الانشاء.ففي الداخل صراع المكونات، المستور منه والمعلن، ومع الخارج حدود تضع “نهائية الوطن” على المحك: حدود لبنان جنوبا قرار مجلس الامن 1701 وشمالا وشرقا حدود في مهب الريح، وغربا البحر المتنازع على حدوده مع الجار والعدو والصديق، وهو اليوم غني بثروات الغاز والبترول.
تبقى الاشارة الى ان الفراغ في السلطة، بمعزل عن شكله وظروفه، لا يؤسس سوى لمثيله. الفراغ لا يملأ بمعادلة سلطة وسلطات متنازع عليها،بينما اللحظة التاريخية المطلوبة لبناء دولة المؤسسات والمواطنة في نظام ديموقراطي ركيزته الحرية والسيادة الوطنية لم تأتِ بعد.

السابق
هل يمتدّ الفراغ طيلة الصيف؟
التالي
’لو’: حان دور المرأة الخائنة