الموارنة.. وعقدة الرقم 1

غالبية الموارنة يتوقون إلى بلوغ الرقم "1".. صحيحٌ أنّها نزعة بشرية رافقت عموم الناس منذ فجر التاريخ، لكنّها حالة خاصّة طبعت صورة الموارنة في لبنان، وارتبطت بهم وتحوّلت بفعل التجارب إلى ركيزة أساسية حالها حال الحواس الخمس.

جمعتني الصدفة ذات يوم بطبيب أسنان دخل عقده الرابع وفي جعبته كمٌّ وافر من الأحلام، فبالإضافة إلى عمله كطبيب، أسس مختبراً ومطعماً ومحطة لتوزيع الكهرباء وأخرى لتوزيع القنوات التلفزيونية والإنترنت… لاحقاً، تحولت العلاقة بيننا إلى صداقة، فراح يحدثني بشكل دوري عن أحلامه التي لا تنضب وعن مشاريع ينوي استحداثها في غير مكان. وأنا لا توقف عن التحديق في عينيه لأستقي منه ما تيّسر من كلمات قد تنتهي بشكل مباغت جراء فكرة طارئة تقوده نحو تنفيذ مشروع جديد.

لا شيء كان يحضرني في جلساته أكثر من مقولة أحفظها عن ظهر قلب للخلفية الأموي عمر بن عبد العزيز: “إنّ لي نفساً توّاقة ما نالت شيئاً إلا وتاقت لما هو أعلى منه”.

عرفت، لاحقاً، أنّ صديقي ماروني، وأنّه، كما غالبية الموارنة، يتوق لبلوغ الرقم “1”.. صحيحٌ أنّها نزعة بشرية رافقت عموم الناس منذ فجر التاريخ، لكنها حالة خاصة طبعت صورة الموارنة في لبنان، وارتبطت بهم وتحولت بفعل التجارب إلى ركيزة أساسية حالها حال الحواس الخمس.

“أمي آمنت بي باستمرار كما لو أنّها هيّأتني منذ الصغر لهذا المصير”، يقول الرئيس أمين الجميل في كتابه “الإساءة والغفران”. كتابٌ يخبرنا فيه فخامة الرئيس عن خلاصة تجربته في الحكم وعن محصلة تُفيد بأنّه كان، ولا يزال، المنقذ الوحيد لدولة تتهاوى أو تكاد.

وفي هذا الإطار، تطول الأمثلة وتكثر الشواهد. الرئيس بشير الجميّل، مثلاً، قام بتصفية وتهجير كافة القوى المسيحية المناوئة له ليصبح الرقم “1”. وكذلك حاول الدكتور سمير جعجع والعماد ميشال عون في حرب الإلغاء ولاحقاً في رفض اتفاق الطائف أو في الموافقة عليه ثم التحفظ لاعتبارات مسيحية تُحدد الرقم “1”.

يكاد لا يخلو خطاب للدكتور جعجع من قوله: “راجعوا كل استطلاعات الرأي”، ويضيف: “نحن الرقم 1”. كلامٌ لا يلبث أن يردّه العماد عون لصاحبه: “نحن أكبر تكتل مسيحي في تاريخ لبنان، وبالتالي نحن الرقم 1”.

ضمن هذا الترتيب يأتي الخطاب الكتائبي أكثر تواضعاً وبراغماتية: “صحيحٌ أن جماهيرنا تقلصت وتراجعت من المرتبة الأولى إلى المركز الأول، لكن كلّ المؤشرات تؤكد بأننا سنعود إلى الرقم 1، أي إلى حيث نحن”!

قبيل الإنتخابات النيابية، في 7 حزيران 2009، تصدّعت رؤوسنا بالنظرية القائلة: “تسونامي 2005 ولّى إلى غير رجعة”. نظرية أُرفقت بسيل وافر من استطلاعات “علمية” تؤكّد أنّ المزاج الشعبي تغيّر وأنّ كتلة العماد عون لن تتخطّى عدد أصابع اليد الواحدة.

هذا الجو رافق أيضاً الإنتخابات الفرعية، عام 2007، لشغل مقعد النائب والوزير الشهيد بيار الجميّل في قضاء المتن الشمالي. يومها دخل الرئيس أمين الجميّل المواجهة بناءً على إستطلاعات كثيرة تفيد بأنّ المعركة شبه محسومة وأنّ “ورقة التفاهم” قلبت الرأي العام المسيحي رأساً على عقب.

اليوم، يُتمتم العماد عون بصوت مسموع “أنا أو الفراغ”. هو قال سابقاً “لعيون صهري ما تتشكلّ حكومة”، ويقول الآن، بشكل موارب: “إما أنا الرئيس الوفاقي المنقذ وإما لا جلسة ولا نصاب ولا رئيس”.

لا يشعر عون أنّه في حاجة إلى تبرير فعلته لأحد، أيّ أحد. البطريرك “عمهلو بيرضى”، وإن لم يرضّ فلا بأس من العودة إلى شعار “إنت البطرك يا سليمان”. وفي حال أصرّ البطريرك على استفزاز عون، أي الرقم “1”، فعليه أن يتحسّس تجربة سلفه وأن يتّعظ منها قبل أن ينهال “أثاث” البطريركية على رأسه!

عقدة الرقم “1”، هي عقدة رافقت جُل زعماء الموارنة وتحولت يوماً تلو آخر من فعل حميد قائم على مبدأ “النفس التواقة والطامحة” إلى فعل مدان أساسه “أنا أو لا أحد”، وبالتالي، فإن الموارنة مدعوون اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، إلى التخلّص من سلبيات الرقم “1” وإلى المحافظة على الإيجابيات الخلاقّة وما نتج عنها من حضارة وتقدم وانفتاح كانوا روّادها.

السابق
«نحن» تحاول ترميم حديقة صور العامة
التالي
جنبلاط عزّى الفنان السوري سميح شقير بابن عمه