صاحب الغبطة.. إلى أين؟

عليك أن تتحفظ عندما تكتب عن «رجال الدين». المقامات محصَّنة بالممنوع. إثارة الحساسيات فتنة. فهؤلاء، تقول عنهم الآية الدارجة، يَسْأَلون ولا يُسْأَلون. إنهم في مرتبة العصمة، ولو كانوا على وشك الارتكاب، أو إذا اقتحموا الحرام،

لديهم الحجة والجبة والصولجان. عندهم الرتبة التي تحميهم من السؤال. وإقامتهم الملتبسة في ما بين الدين والسياسة، تمنحهم هامشاً من «الانتهاز» و«المناورة» و«الاحتماء». يتنقلون من السماوي إلى الدنيوي، وفق ما شاؤوا من أهواء. فلكل مقام إفتاء يسمح ويجيز، أو يمنع ويحرم. لا يرتبكون في الانتقاء، في السياسة هم دينيون، وفي الدين هم سياسيون. فعلاً، إنهم مبدعون، أي أهل بدعة.
لذا، نتحفظ عن الكتابة عن «رجال الدين» هؤلاء، مع استثناءات، يطيب فيها الكلام، بلا حرج ولا تكلف. لا حرج في أن نستدعي من الزمن الذي غادرنا، أسماء، تشبه الصلوات، من أمثال البابا شنوده، بابا الأقباط في مصر، والمطران إيلاريون كبوجي، مطران القدس في المنفى، والمطران الشهيد غريغوريوس حجار، إبن بلدة روم اللبنانية. لهؤلاء، مقام القداسة الوطنية والرفعة الروحية والشفاعة السياسية ونذور الاقتداء… فبهم نقتدي.
البابا شنوده، له سيرة الرجال العظام. لا يُنسى، برغم شح التذكر، ووفرة الزوغان عن فلسطين. كان السادات، فرعون مصر بلا منازع، له الكلمة والقبضة وختم التوقيع. خلفه بطولة العبور وتحطيم خط بارليف. يسند حكمه إلى إنجاز إعجازي، هو الواحد الأحد الذي يطاع، والذي ملأ السجون بمعارضيه، الأقربين والأبعدين… ذهب إلى القدس، فسقط هناك. قادته السقطة إلى كامب ديفيد، فوقَّع. ووقعت مصر بعده في الحرم العربي.
سكت كثيرون. إلا البابا شنوده. عارض السادات ومعاهدة «كامب ديفيد». حرّم زيارة القدس تحت الاحتلال. لم ينبذه أتباعه الأقباط. التزموا المقاطعة ومارسوا التحريم. لم يرتكب «الخطيئة الرعوية»، ظل راعياً لرعيته القبطية في فلسطين، من بعيد، بالصلاة والدعاء والإرشاد والامتناع عن مساعدة الاحتلال… غَضَبُ السادات لم يثنه عن عقيدته الأورثوذكسية، قومياً ودينياً. عاقبه السادات ونفاه إلى دير في وادي النطرون، حيث مكث في شبه إقامة جبرية.
خلف هذا البابا، تجوز الصلاة ويجوز الدعاء ويلزم الاقتداء…
هنا، يتسق الديني والإنساني والقومي. هنا، تكون فلسطين أقنوما كنسياً، لا فكاك منه.
له، لهذا البابا، نقول شكراً.
مطران القدس في المنفى، ايلاريون كبوجي، حمل الإنجيل بيد والبندقية بيد. مكانته الدينية كانت تكيّة للمقاومة. تجرأ على الممنوع والخطير. جعل حصانته الدينية في خدمة القضية: هرّب الأسلحة بسيارته للفدائيين الفلسطينيين. ضبط بالجرأة المشهودة. ولما انعقدت المحكمة لمحاكمته، دخل القاعة وأدار ظهره لهيئتها. نودي عليه: ايلاريون كبوجي، فلم يجب. نودي مرة أخرى، لم يرد. نودي مرة ثالثة، فالتفت إليه محاميه الشهير رولان دوما، طالباً منه الجواب. قال له: لا أعترف بهذه المحكمة. وحده يسوع ان ناداني أجبْه. ولما جاء دوره ليتكلم، وقف ورفع يديه إلى السماء، وشكى لربه الاحتلال والظلم والطغيان…
لهذا المطران، نقول شكراً. وان الاقتداء بك بات صعباً.
في الزمن الذي غادرنا، قامة شهيد هو المطران غريغوريوس حجار، ثمة حاجة إلى الإضاءة على كوكبة من رجال الدين، الذي غلَّبوا قضايا الدنيا الإنسانية والأخلاقية المقدسة، على «المقدسات» الرجراجة العابرة… غريغوريوس الحجار، صخرة في مواجهة الصهيونية والبريطانيين. قارعهم بالحق. حجته من صلب الدين الدنيوي: فلسطين لأهلها، فكما «أبانا الذي في السموات»، فليتقدس اسم فلسطين. بعدها، فتح المطرانية لانتفاضة وثورة العام 1936. وذات ليل، اغتاله البريطانيون، فارتفع شهيداً لبنانياً في فلسطين.
له، نقول شكراً، ونضيء شموعاً.
فماذا، بعد هذا، نقول لغبطته الذاهب إلى القدس؟
ما لنا وللقول! الزمن الراهن زمن رخو ومطاط، تجوز فيه الممنوعات، ويُفتى فيه بالمحرّم، ويتعامل الناس مع الفدائح على طريقة القرود الثلاثة: «لم رأيت، لم سمعت، لم حكيت» (قراءتها بالعامية المغلوطة واجبة ليستقيم التناقض).
إنما، هناك حاجة للتذكير، وإن كانت الذاكرة الوطنية منفيّة أو مفرغة عنوة أو رغبة، من إسرائيل. فالحاضر مكتظ بكل أسباب الابتعاد عن إسرائيل ومحاولات التقرب منها. على انه إذا كان هذا هو واقع حال عربي يائس، فإنه ليس واقع حال لبنان وفلسطين أبداً. ففي فلسطين دوام الاحتلال والاستيطان والظلم والاعتداء والخروج على مبادئ وشرعة الأمم المتحدة والقرارات الدولية. في فلسطين، ظالم مطلق ومظلوم مطلق.
لا رعية ناجية في ظل الاحتلال. المسيحيون يتدبرون أمورهم الرعوية محلياً. لا مشكلات رعوية تقتضي تدشين تطبيع، بأسماء ونعوت غير دقيقة. الرعية، قد ترغب أن يبقى «الراعي» راعياً من بعيد. هكذا يكون أقرب إلى قضيتهم. ربما تريد الرعية أن يرفع «الراعي» صوته في الفاتيكان: «لا لزيارة البابا إلى الأراضي المقدسة» لأنها فرصة لإسرائيل فقط. إسرائيل لا تسمع من أميركا، ولا تصغي إلا لصوتها، فهل ستتنازل لتسمع صوت البابا؟ لقد أخذت إسرائيل من البابا يوحنا بولس الثاني ما تريده اعترافاً مجلجلاً (يا للبؤس!) مقابل مصافحة «أبو عمار» في الحاضرة الفاتيكانية.
إنسَ.
ولبنان، للتذكير فقط، ليس آخر من يوقع أو آخر من يطبع. هذه شعارات مر عليها الزمن. لبنان، هو أول من يحرر، فلا توقيع ولا من يحزنون. لقد ثبت بالوجه الواقعي، أن المقاومة حررت لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. حررت بيروت والجبل والإقليم وصيدا والجنوب والبقاع الغربي والشريط المحتل، وثبت أنها أسقطت الرئيس الذي نصبه الاحتلال وأسقطت 17 أيار… فكيف ننسى؟
لا ننسى.
المسيحيون، يدشنون دينهم بفعل الإيمان الخلقيدوني: «نؤمن بإله واحد». وهنا في لبنان، يتقرب لبنانيون من كنيسة بفعل إيمان خلقيدوني لاهوتياً، وفلسطيني إنسانياً، أكانت هذه الكنيسة مسيحية أم شيعية أم سنية أم ملحدة.
كان عليَّ أن أتجنب بعض ما ورد في هذه المقالة.

السابق
ارتفاع عدد اللاجئين السوريين في لبنان إلى 1.058.088
التالي
زاسبيكين: أتخوف من تدهور الوضع الامني بحال امتد الفراغ لفترة كبيرة