مصائر تراجيدية في الثورة السورية

مدينة حمص

«رايحين ناكل لقمة ونرجع». هذا ما قاله أحد مقاتلي حمص القديمة إثر مغادرتهم المدينة وفق الشروط التي باتت معروفة. عبارة يمكن وصفها بالخاتمة النموذجية التي تَعِد باستمرار الملحمة، وهي إذ كانت موجهة الى تعزية النفس أولاً، فلا شك في أنها تمنح العزاء أيضاً للجمهور الذي تابع طوال سنتين مأساة الحصار التام. وهي أيضاً تذكّر بالمصير البائس لعشرات المقاتلين مطلع هذه السنة، عندما حفروا نفقاً يوصلهم إلى منطقة المطاحن المحاذية لحمص القديمة ليجدوا في نهايته قوات النظام تنصب كميناً لهم، فلا يتمكن سوى أربعة منهم من النجاة، ويتبدد الجهد المضني لنحو أربعة أشهر أمضوها في حفر النفق.
بقاء المقاتلين في حمص القديمة وقتالهم حتى آخر رمق، شكّلا أحد الاحتمالات التي يُخشى منها. رحيلهم بأسلحتهم لم يقلل من صمودهم الأسطوري، أو من هيبة المصير التراجيدي بما أنهم لم يتراجعوا عن مقاومتهم للنظام المتفوق على كل الصعد، باستثناء الأخلاقي منها، حتى ليمكن وصفه بالقوة الغاشمة الكلية القدرة قياساً إلى إمكاناتهم المتواضعة، وأيضاً باستثناء العامل الأخلاقي الذي يميل إلى جهة مظلوميتهم بقوة.
مع ذلك، سيكون عادلاً القول إن أولئك المقاتلين لم يبحثوا عن أسطرة أنفسهم بمقدار بحثهم عن الغذاء الذي يكفل لهم الاستمرار في القتال، الأمر الذي يرفع شأن مكابدتهم ويزيد أسطرتهم. فالبطل التراجيدي واقع دائماً تحت طائلة الهوة الشاسعة بين نبل ما يسعى إليه والعوائق المنصوبة أمامه بإحكام.
لكن مشكلة التراجيديا، إذ تضع أبطالها أمام قوى تفوق طاقتهم، أنها تعفيهم من تبعات المسؤولية عن الإخفاق، ولأنها موجهة أصلاً إلى الجمهور، فهي تنقل ذلك بالعدوى إليه. الجمهور العادي الذي يتمثّل بطله، وبمقدار اعتزازه به، ستنتقل إليه عدوى الإحساس بأنه فعل ما يتوجب فعله في ما لو تعرض للامتحان ذاته، وليس نادراً أن يتمزق بين إحساسين، أولهما الشعور بالفخر لعدم التخلي عن المبادئ، وثانيهما الإحساس بالعجز واللاجدوى ما دام أبطاله لم يحظوا بالنهاية السعيدة. من الضروري أن نتذكر هنا انتماء التراجيديا إلى الصراع الأزلي بين الخير والشر، ذلك الصراع الذي لا يبدو قابلاً للحسم أصلاً.
ومع أن أية ثورة تبدو بحاجة إلى أيقونات، وهذا هو المعنى العميق لاصطناع الأبطال في الثورات كلها، إلا أن تكرار صورة البطل التراجيدي في الثورة السورية أصبح جديراً بالتوقف عنده. الصورة التي بدأت قبل أكثر من سنتين في صمود حي بابا عمرو في حمص أيضاً، ثم تتالت مثيلاتها في القصير ويبرود، وربما نكون مع مواعيد أخرى لمناطق وأحياء في غوطتي دمشق. ففي كل مرة يظهر أولئك الأبطال في مواجهة ظروف قاهرة، وفي كل مرة يُبدون من الشجاعة والصمود ما يُدهش المتابعين، وما يُدهش حتى جمهور الثورة نفسه، ثم تأتي الهزيمة المبررة في الحبكة المكررة ذاتها، تليها التبريرات والذرائع ذاتها التي لا تجد حلاً.
هذا النمط التراجيدي بات يأخذ الثورة إلى تقديم الأمثولة بدل تقديم الحلول التي تمنع شيوعه، الحلول التي يجب أن يبحث عنها أناس عاديون في الدرجة الأولى، لا أولئك الذين يتحولون أبطالاً استثنائيين تحت ضغط الحاجة، فضلاً عن أن تكرار النمط بحذافيره يحوّله مهزلةً ويخسف محاكاة المثُل إلى محاكاة المحاكاة.
لا حاجة إلى كثير من الدهاء هنا لمعرفة الأسباب التي تبتذل شاعرية البطولة على وجه العموم، من دون أن تنتقص من شجاعة المقاتلين المحاصرين في بؤر معزولة تماماً. فأية سيطرة على مدينة أو منطقة لا تتحسب لتأمين خطوط إمدادها ستلقى المصير المحتّم، وسيُضطر أبناء تلك المنطقة مرغمين إلى ضرب مثل في الصمود لأنهم أمام خيار الموت بكرامة أو الاستسلام لنظام سيقتلهم مع الإذلال.
ما حدث في حمص القديمة قد يحدث في أي مكان آخر، ما دامت الثورة تقاتل بالمفرّق، وما دام لكل منطقة فيها ثوارها وقادة حربها الذين لا يتصرفون وفق إستراتيجية عامة موحدة. هذا هو معنى «الفزعة» التي تطالب بها مناطق عدة عندما تُطبق عليها قوات النظام والميليشيات الأجنبية الداعمة له. فالمقاتلون فيها يطلبون النجدة من مقاتلي المناطق المجاورة كأنهم يستجدون دعماً من جهات أخرى لا تربطهم بها صلة وثيقة أو هدف واحد. وعندما تأتي «الفزعة»، إن أتت، تكون بعد فوات الأوان، كما حصل في تجربة القصير.
الآن ثمة ما هو معلن وواضح مسبقاً، فثوار حمص القديمة ذهبوا إلى الريف الشمالي المحاصر بدوره، وليس مستبعداً أن تلقى مناطق مثل تلبيسة والرستن المصير الذي عرفوه في مدينتهم. المستغرب فقط أن التحذيرات المسبقة تبقى غالباً بلا جدوى، فلا تُبذل الجهود الجدية لدرء الهزيمة قبل وقوعها.
هي كارثة في حد ذاتها، لا أن يضطر المقاتلون إلى الرحيل بسبب نقص العتاد والذخيرة، بل أن يفعلوا ذلك بسبب الجوع. النظام كان دشّن حملة «الجوع أو الركوع» بعد إطباقه على عديد المناطق ليقينه بعجز مقاتليها عن فك الحصار، وأيضاً ليقينه بأن الخطوط الخلفية لقواته المحاصِرة في مأمن من هجمات تبتغي فك الحصار. أما الطامة الكبرى ففي وجود أمراء حرب ضمن المناطق المحاصرة، ما يمنع توحيد الجهود لفك الحصار أو للدفاع عنها لدى تعرّضها للاقتحام بعد شهور طويلة من التجويع والإنهاك.
باختصار، هناك قيادات سياسية وميدانية تجب مساءلتها بدءاً من الهزيمة المكررة الثانية، إذا نظرنا إلى الأولى كدرس يُستفاد منه. أما توالي الهزائم على النحو ذاته فأمر يدعو إلى التشكيك، لا في أهلية القيادات فحسب وإنما في قدرة السوريين على المضي بثورتهم ما داموا مستكينين لمجمل الظروف، بما فيها تسليمهم بوجود قيادات أثبتت فشلها. ربما صار ضرورياً أن يتواضع السوريون، وألا يطربوا لصفات التعظيم التي يسبغها الآخرون عليهم أو يسبغونها على أبطالهم، فالمصائر التراجيدية تصنع أبطالاً لكنها لا تصنع نصراً هم أحوج ما يكونون إليه: النصر الذي لن يأتي طالما بقي لدينا أبطال ينتظرون وننتظر معهم مصيرهم التراجيدي.

السابق
السقف الأميركي لدعم المعارضة السورية
التالي
مركز موشيه دايان: 10 سنوات جديدة للحرب السورية