أين تقع «إسرائيل»؟

يظهر العالم مسكوناً بهموم الأرهاب الى درجة تبرز فيها الكرة الأرضية رافعةً أصابعها العشر تجاه هذه الظاهرة/اللوثة التي تلطّخ ثياب المسلمين والشرقيين. مهلاً. لو قرأنا بنقرة إصبع إحصائيات الأمم المتّحدة فأنّ عدد الأشخاص الذين يموتون سنوياً في العالم، بسبب مرض الإيدز شارف ال3 ملايين بحيث أنّ الذين يموتون في ال24 ساعة بسبب الأعمال الإرهابية يساوي عدد الذين يموتون بالإيدز خلال عام. 

ولو أضفنا الذين يموتون بالإنتحارات اليومية على أرصفة الغرب وتحت القطارات وفي الغرف المنعزلة فوق السطوح ، أو أضفنا أعداد الذين يموتون بحوادث السير أو بالتدخين أو لنقص االغذاء والطبابة والتلوّث أو بالأمراض المعاصرة لصغر الموت أو أفرغ من معانيه لكن ما يعرف بالإرهاب أو الموت على يد الإرهابيين يتجاوز صدمات الموت كلّه فوق الكرة الأرضية. هذا موت يفرّغ الأديان والإنسانية من معانيها عن طريق القتل الذي تمارسه أخطر 47 منظّمة إرهابية في العالم وعلى رأسها القاعدة، تتحمّل 75 بالمئة من الأعمال الإرهابية في قارة آسيا والعالم وبرعاية الكثير من الدول المحترمة في العالم.

لست هنا لأبرّأ الإرهاب قطعاً ولست من المغرمين بإستبدادية الأرقام التي تملأ المواقع ومعظمها من نتاج غربي ملغوم، ولا تتوخّى هذه المقاربة الحسابيّة تخفيف ما تورثه التفجيرات في تونس ومصر وسوريا وغيرها، لكنّني أتساءل: أين تقع “إسرائيل ” من هذا كلّه؟ ألم يشغل اليهود بمؤآمراتهم وإرهابهم شعوب الرومان والكاثوليك والبروتستانت وتمّ الإنقضاض بمساهماتهم على الفاشية والنازية فالمسيحية ثمّ فلسطين والشيوعية قبل بلوغ فصول التآمر الأكبر الحاصل اليوم على المسلمين جماعات ودول إقليمية كبرى أو أفراد ومفكرين؟
ترعبني تلك الليونة في معظم كلام العرب ومواقفهم حول” إسرائيل” وخطر اليهودية. وتأسرني مظاهر التطبيع والتفخيخ الخفيّة التي تجتاح الأسواق والأفكار العربية بما يظهرنا ساحات أضاعت حجارتها وعروبتها وحدود مستقبلها في مكائد وتشظيات دموية تعبث بالجغرافية والديمغرافية والثقافة. نجمة العلم “الإسرائيلي” السداسية تلمع منقوشةً في المقتنيات والرسوم في الصالونات والمطاعم والملاهي وقطع الحلوى والأواني اليومية وعلب الهدايا وكلّ ما  هو على تماسٍ مع الإستعمال اليومي وتحت حدقات العيون. ويشحن الفراغ في الزمن العربي ببرامج التسلية والخفّة والغرائز والتركيز على الأشكال لا المضامين والتسطيح لا التفكير، وتندر في هذا الهشيم علامات الإستفهام والأسئلة النقدية المثمرة أمام ألعاب الحرية والديمقراطية المستوردة المزركشة بياقات الإخوانية أو ذقون المتلذذين بالقتل تحت أغطية تهشّم السماحة في فهم الإسلام . معظمنا يسبح في النصوص السريعة “الفايسبوكية” واللمح “التويترية” والصور أو الأفلام” اليوتوبية” التي تقدّم صمتاً وخرساً وعبثيّةُ  وتشوّهات بليغة بحثاً عن وهم التغيير. هل هذه هي الحريّة فعلاً التي لطالما رددناها ونكتبها مسكونين بالضاد بالألف المربوطة؟ أين تقع المسؤولية بعد؟ من يحددها ومن يدّعي القدرة على لملمة المدن والأشلاء والإنهيارات والفلتان المستغرق في العنف والجنس والتشويه في الفصول الدموية وخرائب “الثورات” المرتجلة  المتنقلة في الحقائب الدبلوماسية؟ بل أين باتت تقع”إسرائيل”، بعدما إجتاح معظم المفكرين والكتّاب ظاهرات أكثر خطورةً هي الخجل الجديد أو التهرّب من التركيز على فكرة المؤامرة نعم المؤامرة في ما حصل ويحصل على إمتداد الرقعة العربيّة والإسلامية. وتتعاظم المعضلة إذ نسمع تباهيات مصطنعة وغير مبرّرة وغير مقنعة عندما يهزأ مفكرونا أو يحقّرون المتلفّظ بنظرية المؤامرة؟ هم يردّون المعضلات الهاطلة فوقنا بتفسيرات مبهمة ملتبسة ومتشابهة، ويرمون أثقال النكبات وتداعياتها على الشعوب والأنظمة، لكنّهم يغفلون ببرودة رهيبة وبسمات صفراء أن المؤامرة تاريخياً هي الملح في صحن السياسة بمعنى السلطات. لماذا التنكّر إذن؟ قد يكون السبب في وهن الثقافة العربيّة المرتكز تاريخياً على المؤامرة، لأنها تشيع الإطمئنان والتخلّص من الأعباء والمسؤوليات والإستمرار في رتابة التاريخ وإستمرارية الحكم، أو هي تظهر وكأنها من لوازم هيبة السلطة الفكرية المتشاوفة ، لكنّها توحي بتمغرب مستورد بعيد عن الواقع ومندفع للفتون بالغير أيّ غير. تلك هي معادلة التغيير العربي بين العرب وغير العرب تتناسل مجدداً. وتحت هذا التأرجح بين المكائد وعدمها والمؤامرات وعدمها ذوت “ثورات” العرب الملوّنة والمتشظية في أكثر من ربيع ولون، وبتنا نراها جزراً دموية من إرهاب القواعد والإخوان والتسميات المبتكرة المتعاظمة وهي تكبر وتصغر وتتلاقى وتتحرّك وتعثر وتتعثّر بما يشوّه الدين ويفتك بقيمه ويفرغ ماضيه وكنوزه. والأخطر من كلّ ذلك نسيان “إسرائيل”.
لا أتقصّد الرجوع الى إنتحار محمد البوعزيزي في تونس بل الى إستمرار الحريق في قبره بعدما حلّت الذكرى الثالثة لإندلاع “ثورة الياسمين” في تونس، ولا أجهد في البحث عن محنة العرب والعروبة بعد زيارة السادات الى “إسرائيل” التي جعلت حتّى أبو الهول يرفع الحجر عن قبره صارخاً وسبابته تلامس السماء: حاجة تجنن. لا لكامب دايفيد. ولا أكرّر تاريخاً من مجبولاً بفكرة المؤمرات وحيث تتكفّل الحرية الهابطة كالسلع على الشعوب بملء كلّ شيءٍ وفي الحال بالإضطراب والفوضى وعدم النظام. طبعاً لا داعي للعودة أيضاً الى تراث الفكر السياسي العالمي قبل كتاب “الأمير” لنيقولا ميكيافللي الذي قد يحتفل البعض بمرور 430 عاماً على تطريزه كوسادة للفكر السياسي محشوة بالمكائد ومتعة المؤمرات ونسف السلطات. نحن من هذا العالم وفي قلبه.
تكفي العودة الى صورة القرن في 11 أيلول التي لفّت العالم بأصوات المؤامرة عندما أظهر فيديو قصير على الإنترنت عنوانه “11/9 : خبطة البنتاغون” صاروخاً لا طائرة تخرق مبنى البنتاغون. من يومها تكوّمت ملايين التحليلات والصور والأفكار والدراسات حول ضخامة المؤامرة التي عجّلت بأميركا الى قرع أبواب الحروب الإستباقية في قارة آسيا. أمثلة كثيرة غير خجولة تعزّز المخططات الملعونة التي تفتح أبواب المؤامرة على مصراعيه منها مقتل الأميرة ديانا التي عشقت شاباً مسلماً فاحتلت أكثر من أربعين ألف موقع إلكتروني لا تفعل سوى البحث عن خيطان المؤامرة وحشو الآذان بالقطن كي لا نسمع بالقصص الرسمية التي أعلنت بعد موتها.
لست من المجادلين في قياس مسؤوليات الداخل والخارج ولا في البحث عن دواخل الخارج ولا خارجيي الداخل، ولست من المولعين بجلد الذات العربيّة وتبخيس السلطات المرتبكة، لكنّني أكتفي بالإشارة العابرة الى الشرق الأوسط المحكوم بالمؤمرات “اليهودية” التي تغلّ في تشقّفات تاريخنا الإنتظاري. وقد تتجاوز هذا القرن الذي يشهد غليان الدين وتذكية صراعات أهله كردود فعلٍ على أزمنة غير متوازنة أو كإنهيارات العناصر الكثيرة في الهويات الوطنية والقومية.
يكفينا أكثر الإقرار بمدى المؤامرات وبألاّ تنزلق فلسطين المحتلّة عندما تسقط من إنتباهنا وألسنتنا ونصوصنا فننسى “إسرائيل” ونعرض عن تداعيات الدعوة المقبلة الى الدولة “اليهودية” مقابل صراعات المسلمين وتنابذهم وحروبهم. ويصبحّ السؤال الأوحد: أين تقع إسرائيل التي قد نجدها في كلّ مكان؟

السابق
الإفراج عن مواطن خُطف قبل 3 أيام من بلدة حورتعلا
التالي
مستوردو الخليوي اعترضوا على إلغاء إلزامية الـ IMEI