الغرب إذ يتشاغل بهواجسه الصغيرة

مازال الغرب يقف في المربع ذاته منذ ثلاثة أعوام ونيف من عمر الثورة السورية، فلا هو حسم موقفه من النظام، رغم كل الجرائم والمجازر التي ارتكبها بما فيها استخدام أسلحة كيماوية وغاز الكلور، ولا هو حسم موقفه من الثورة ومطالبها وأهدافها. والأخطر أنه يغض النظر عن كوارث ومآس إنسانية ماثلة للعيان ويلتفت إلى أمور لم تحصل بعد، وربما لن تحصل، مثل الأخطار المحتملة لجهادييه الذين سيعودون من سوريا.

لقد تفاجأ الغرب بثورات الربيع العربي، ولم يكن مرحباً بها، فقد استقبلها بفتور واضح وأبدى توجسه منها ومن تداعياتها، وجاء تعاطيه معها، ومع تطوراتها ونتائجها، مربوطاً بقدرته على السيطرة على هذه التداعيات والنتائج، وصياغة الواقع الجديد وفق رؤاه، وتجيير ذلك في خدمة استراتيجيته ومصالحه العليا.
ارتبط التوجس الغربي بـخوفه على “استقرار” منطقة كانت ومازالت الدجاجة التي تبيض له ذهباً، وقد أججت الثورة السورية هواجسه ومخاوفه على ربيبته المدللة اسرائيل وأمنها.
غير أن وحشية النظام واستخدامه العنف المفرط ضد متظاهرين سلميين وضع الغرب في مأزق، نتيجة لإحساسه بما يسميه هو الوعي الشقي، فهو من جهة يشيع عن نفسه تمسكه بالقيم الإنسانية والديمقراطية، ومن جهة أخرى يتسامح مع خرق هذه القيم من قبل أنظمة عميلة أو صديقة له. فالثورة الشعبية في سوريا، والتي تبنّت هذه القيم والأهداف، تعرضت لقمع شديد من نظام أراح إسرائيل لعقود، حيث لم يطلق ضدها ولو طلقة واحدة في الهواء منذ العام 1975، وخدمها بإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية بزرع الخلاف والشقاق في صفوفها، وقدّم معلومات للغرب عن التنظيمات “الجهادية” وخلاياها النائمة في دوله ساعدت في تحاشي وقوع هجمات إرهابية ضد مصالحه، ما جعله (النظام) أهلاً للثقة والحماية مهما خرق من قيم ومبادئ ومعاهدات دولية، ومهما فعل بالشعب السوري.
 وللخروج من حالة شقاء الوعي وتبرير السلبية جرى التركيز على أعراض جانبية في الثورة مثل إبراز الطابع الإسلامي لأسماء الجُمع وأسماء الكتائب، كما في النفخ، ومنذ الأيام الأولى، في قضية الأقليات والخوف على مصيرها ومستقبلها، كانت نقطة رئيسة في لقاءات السفيرين الأمريكي روبرت فورد والفرنسي إيريك شوفالييه مع شخصيات من المعارضة قبل خروجهما من دمشق، واعتبارهما الثورة خطراً على المسيحيين والعلويين بخاصة، مع أن الثورة في حينها كانت غير عنفية وتنادي بالشعب الواحد، وتحفظّهما على تأييدها ودعمها، واعتبار ما يجري حرباً أهلية، قبل ظهور الجماعات السلفية، وقدوم مقاتلين جوالين، بما في ذلك مواطنين غربيين، على علاقة بتنظيم القاعدة فتقدم له ذريعة حاسمة: خطر الإرهاب والإرهابيين.
لم يتحرك الغرب لوقف تدفق الأسلحة الروسية، أدوات النظام في قتل المدنيين، والخبرات العسكرية والتقنية للنظام، ولا لوقف شحنات الأسلحة والأموال والضباط والمقاتلين الإيرانيين من فيلق القدس، ولم يجد فيه تدخلاً خارجياً، كما لم يجد في التنظيمات الشيعية المقاتلة (37 تنظيماً) التي وجهتها إيران للقتال إلى جانب النظام خطراً، ولم يجد في ممارساتها إرهاباً مع أن عدد مقاتليها يفوق بمرات عدد “الجهاديين” السنة (الحديث عن 45 ألف مقابل 11 ألفاً منهم 2800 من دول غربية هي: بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، هولندا، ألمانيا) ولا في قتل مواطنين أبرياء، نساء وأطفال وشيوخ، بحدود الـ 200 ألف، وجرح 500 ألف، ناهيك عن المفقودين والمعتقلين وعددهم بمئات الآلاف، واقتلاع أعداد كبيرة جداً من مدنهم وبلداتهم وقراهم، لجوء ونزوح نصف عدد السكان، وتدمير البيوت فوق ساكنيها، إرهاباً أو جرائم حرب وإبادة جماعية، ويتحرك لوقفها وحماية المدنيين كما تقضي بذلك القوانين والأعراف الدولية، ما شجع النظام على التمادي والإيغال في دماء المواطنين.
لم يحركه حتى استخدام النظام للأسلحة الكيماوية بكميات صغيرة مرات ومرات حتى جاءت الضربة الكبيرة في الغوطتين يوم 21/8/2013، فأربكته واضطرته للتحرك، ثم العودة إلى السكون بعد اتفاق نزع أسلحة النظام الكيماوية.
ومؤخراً وجد الغرب ضالته في قضية “جهادييه” وما تنطوي عليه من أخطار وتهديدات، فترك كل ما يحدث على الأرض وتفرغ لهذا الملف “الكبير” و”الخطير”: إجراءات لمنع انتقال مواطنين غربيين إلى سوريا، مراقبة العائدين والتحقيق معهم، سحب الجنسية ومنعهم من العودة إلى البلاد، كما فعلت بريطانيا، استعادة التنسيق الأمني مع النظام لتبادل المعلومات حول هؤلاء “الجهاديين”، وعقد اجتماع خاص لوزراء داخلية الاتحاد الأوروبي في بروكسل يوم 2/4/2014 لمناقشة تقرير حول الموضوع أعده المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب جيل دي كيرشوف، اعتبرهم فيه تهديداً أمنياً رئيساً للإتحاد، واتخاذ إجراءات موحدة.
هذا في حين لم تلتفت دول الإتحاد، والتي تشارك في مجموعة أصدقاء الشعب السوري وفي ما يسمى النواة الصلبة لهذه المجموعة، إلى ما يجري من تقتيل وتدمير، حتى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2139 الذي شاركت في صياغته وإقراره، والذي يقضي بإدخال الإغاثة الإنسانية ورفع الحصار عن المدن والبلدات ووقف قصفها بالبراميل المتفجرة، نُحّي جانباً رغم أنه تضمن آلية تقضي بتقديم الأمين العام للأمم المتحدة تقريراً شهرياً حول تطبيقه واتخاذ إجراءات ضد الجهة المعرقلة، وقد مرّ على صدوره أكثر من شهرين، وقد قدّم السيد بان كي مون تقريراً لهذا الشهر يوم 24/4/2014 مكوناً من 21 صفحة، وقد تضمن صورة قاتمة عن وضع المدنيين، وعن عدم تعاون الأطراف المعنية في تنفيذ القرار. وطالب باتخاذ إجراءات صارمة ضد منتهكي حقوق الإنسان في سوريا. كما طالب جميع أطراف النزاع بالتوصل إلى اتفاقيات تعاون مستدامة مع الأمم المتحدة لتسهيل وصول القوافل إلى المناطق المحاصرة. وشدد على ضرورة وفاء الأطراف جميعها، وخاصة الحكومة السورية، بالتزاماتهم، حسب منطوق القرار المذكور، الذي اعتُمد بالإجماع في 22/2/2014. وأشار إلى أن هناك 3.5 مليون شخص محرومين من الخدمات الأساسية ونحو 197 الف شخص عالقين في مناطق تحاصرها القوات الحكومية في حمص وغوطة دمشق ومخيم اليرموك، و45 ألف شخص تحاصرهم قوات المعارضة المسلحة (نبل والزهراء)
 أين القيم الإنسانية ودعم الديمقراطية التي ينادي بها الغرب؟.
 من حق الغرب أن يفكر بمصالحه وأمنه، لكنه مطالَب كذلك بتنفيذ المعاهدات والمواثيق الدولية وتطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وباحترام القيم الحقوقية والإنسانية التي ينادي بها. وهنا نسأل هل كانت ظاهرة “الجهاديين” الجوالين، والغربيين منهم بخاصة، ستنشأ لو أنه تحرك تحركاً جاداً، وفي الوقت المناسب، وأوقف القتل والتدمير والاقتلاع واجترح حلاً يلبي مصالح الشعب السوري، حلاً يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن العرق أو الدين أو المذهب أو الجنس في ظل نظام يسود فيه القانون والعدل والمساواة؟. ألا يستحق الشعب السوري تضامناً وتعاطفاً إنسانياً مع آلامه ومعاناته، ألا يستحق موقفاً حازماً يوقف القتل والتدمير ويرفع الحصار عن المحاصرين ويدخل المواد الغذائية والدوائية للمحتاجين أم أن القضية تتعلق بشعب بعيد وقتل أبنائه لا يمس مصالح الغرب وسلامة أراضيه؟
السابق
موت العدالة
التالي
الاعتقال التعسفي في القديس يوسف