ولأن الأقلية كانت الروح في عرف هذا النظام حكم عليها أن تكون أقلية بلا جسد، أي حرمها أن تعيش ذاتيتها الإثنية وفولكلورها الخاص وشعائرها ومعتقداتها، ففرض على العلويين «التسنّن القومجي» في اطار رمزي «أموي» لعقود، قبل أن يسمح لمعتمدي السياسة الايرانية بالاسهام في «التعديل الجيني» للذاكرة والمعاش العلويين في اتجاه «التشيّع المهدوي». أمّا المسيحيون، فقبل التغني بآرامية معلولا كان للنظام باع في محاصرة التعددية اللغوية المسيحية السريانية والأرمنية، ويضاف ذلك الى مناهضة الحقوق الثقافية واللغوية للأكراد كما سائر حقوقهم القومية، وهذا سابق على البعث الأسدي طبعاً، كما هي سابقة أيضاً النكبة الثقافية التي جعلت سوريا بعد استقلالها الوطني تتطهّر من فرنكوفونيتها، هذا التطهّر الذي بدلاً من أن يخدم الوعي القومي «العروبي» فقد عزّز القسمة الاستعمارية بين سوريا ولبنان في واحدة من مفارقات التاريخ الحديث.
ما حدث مع اندلاع الثورة هو الاكتشاف المرّ المقابل: ان الأكثرية هي الأخرى بلا «جسد». لا تشكّل الأكثرية العربية السنية في سوريا «الجسم الاجتماعي» الذي تحدّث عنه فلاسفة العقد الاجتماعي في اوروبا القرن الثامن عشر والذي ينتجه هذا العقد، ويكون الخارجون عن هذا العقد خارجه والداخلون فيه داخله. في الثورة الفرنسية، خرج من قال إن الفرنسيين ناقص الاريستوقراطيين والاكليروس يتشكلون في «جسم» اجتماعي وثوري في الوقت نفسه: يلغون عقود النظام القديم ويؤسسون للعقد الجديد. في سوريا، كان هذا النموذج المنقول بالتواتر مغرياً: السوريون ناقص الأقليات يتشكلون في «جسم» اجتماعي وثوري في الوقت نفسه ضد النظام. هذا الإغراء لم يكن في محلّه: فما لم تستطع الثورة الفرنسية أن تبنيه كجسم اجتماعي على قاعدة اقصاء أصحاب الامتيازات الاريستوقراطية والاكليروسية لن تستطيع الثورة السورية بناءه على قاعدة التماثل مع جوهر «حزب البعث العربي الاشتراكي»: معاداة التعددية الإثنية بكافة مندرجاتها. هذه المعاداة جعلت الجسم الاجتماعي للثورة السورية يبدو مستحيلاً في الوقت نفسه الذي زينت فيه لأصحابها بأنها السبيل الضروري والعاطفي اليه.