بارزاني وعرفات

بارازاني

ليس من الحكمة أن يقول الصحافي لزعيم إن اللقاء معه يذكّره بزعيم آخر. لكن هذه القاعدة يمكن اختراقها في بعض الحالات إذا كان الزعيم طبيعياً على رغم كونه رمزاً ووريث زعامة تاريخية.
قلت للرئيس مسعود بارزاني أنني كلما ذهبتُ للقائه، في مقر إقليم كردستان، أتذكّر يوم كنا نذهب للقاء الرئيس ياسر عرفات. وفوجئتُ بالرد: «أنا لا أنسى أفضاله ومواقفه والود الذي كان بيننا».
غلبني الفضول الصحافي فسألتُ وكَشَفَتْ الإجابات خيطاً من الود كان قائماً بين رجلين يمثّل كل واحد منهما نضال شعب مظلوم وأحلامه التي كانت تبدو صعبة إلى حد الاستحالة يوم التقيت بارزاني للمرة الأولى وكان العراق في قبضة صدام حسين.
قال بارزاني انه التقى عرفات للمرة الأولى في بغداد في بداية السبعينات التي افتتحها صدام باتفاق الحكم الذاتي مع الأكراد الذي أصيب في السنة التالية إصابة قاتلة، حين أرسل النظام وفداً مفخّخاً انفَجَر خلال لقاء مع الملا مصطفى بارزاني الذي نجا بأعجوبة.
كان ياسر عرفات بارعاً ويحاول الاحتفاظ سراً بأوراق للضغط على نظامَيْ «البعث» في العراق وسورية، رداً على محاولتهما مصادرة قراره أو ممارسة الوصاية عليه.
كان مسعود بارزاني في زيارة سرّية الى فيينا التي وصلها في الأيام الأخيرة من العام 1978 في طريقه إلى باريس للقاء الإمام الخميني، بناء على نصيحة من عرفات. تعرّض بارزاني لمحاولة اغتيال في فيينا على أيدي عملاء النظام العراقي كَشَفَت وجوده وعطَّلت قدرته على استخدام جواز سفره. وهنا جاء الحل من عرفات الذي أعطاه باسبوراً لبنانياً استخدمه للعودة من رحلته.
كشف بارزاني ايضاً ان عرفات زوّده ذات مرة باسبوراً تونسياً استخدمه في أحد أسفاره، وقال ان عرفات لعب دوراً في ترتيب اللقاء الأول مع الخميني بعد انتصار الثورة، وذلك عبر القيادي الفلسطيني الراحل هاني الحسن. نشأت علاقة بين بارزاني وقادة الثورة الإيرانية، لكنه لم يتحول رجل إيران في كردستان. لم يكن هذا طبعه، ولم تكن تلك مصلحته.
أعجبتني قدرة عرفات على توزيع باسبورات تخصّ دولاً أخرى. قلتُ أذهَبْ أبْعَدْ، سألتُ بارزاني: «هل حصلتم على أسلحة من عرفات»، وجاء الجواب: «نعم ولكن بكمية قليلة وهي عبارة عن رشاشات كلاشنيكوف قمنا بتهريبها عن طريق حدودنا مع سورية».
في النصف الثاني من الثمانينات سيقوم ياسر عرفات بدور مشابه على مسرح آخر، وهذه المرة ثأراً من نظام حافظ الأسد. سهّل لـ «القوات اللبنانية» بزعامة الدكتور سمير جعجع فتح باب الحوار مع بغداد التي لم تبْخَل ايضاً بمساعداتها العسكرية على الجنرال ميشال عون.
عبر اتفاق أوسلو 1993 حاول ياسر عرفات أن يؤسس إقليماً فلسطينياً على بعض أرض فلسطين. كان يبحث عن تراب فلسطيني يستطيع أن يرفع عليه علم فلسطين ويستقبل ضيوفه على وقع النشيد الفلسطيني. حال افتقار الجانب الأميركي الى النزاهة دون التنفيذ الكامل لما اتُّفِق عليه. يحاول الرئيس محمود عباس ترميم الإقليم، على أمل الوصول ذات يوم إلى حلّ الدولتين.
مسعود بارزاني خدمه الحظ أكثر. كان غزو العراق الكويت أشبه بعملية انتحارية نفّذها جيش صدام. ستأتي الفرصة الذهبية مع قرار أميركا إطاحة نظام صدام. تصرَّفَ جلال طالباني ومسعود بارزاني ببراعة. وافقت الأطراف الشيعية المتشوقة لإطاحة صدام على مشروع العراق الفيديرالي. هكذا وُلِد إقليم كردستان العراق من رحم الدستور الجديد للعراق الجديد.
استوقفني قول بارزاني إن الشعوب استيقظت ولم تعُد تقبل الظلم اللاّحق بجماعات أو أفراد. استوقفني ايضاً قوله إن الخرائط التي اصطُنِعت غداة الحرب العالمية الأولى مهدّدة بالانفجار، ما لم تعتنق الدول المعنية مبادئ المشاركة والاعتراف بالآخر.
الشرق الأوسط خزّان هائل من الظلم للجماعات والأفراد. إننا في بدايات زمن التفكّك. وثمة من يعتقد بأن الهاربين من قبضة الظلم قد يقعون في قبضة الظلام لأننا لا نتعلّم من تاريخنا ولا من تواريخ الآخرين.

السابق
الراي: مناخ جديد يؤشر الى تفاهم لبناني ـ لبناني
التالي
تفكيك بلاد الشام لضمان إيران… قنبلتها الحقيقية!