حزب الله يخوض معركته الأخيرة

يواجه حزب الله سلسلة من التحدّيات الإقليمية ويتعرّض إلى ضغوط دولية شديدة للانسحاب من سورية، حيث تورّطت قوّاته في الأزمة الدائرة في البلاد، ما اضطُرّه إلى الشروع في مراجعة ذاتية وتقديم تنازلات في الداخل.
(هذه الدراسة اعدها معهد كارنيغي):
يُعتبَر حزب الله اليوم الفريق السياسي الأكثر سيطرةً في لبنان. وقد انطلق في البداية تنظيماً مقاوِماً يحارب الاحتلال الإسرائيلي في لبنان الذي بدأ في العام 1982، ويعارض التدخّل الغربي، لاسيما الأميركي، في الشرق الأوسط. لكنه تحوّل على مر السنين إلى مجموعة شبه عسكرية منظّمة وبراغماتية لديها مصلحة استراتيجية ووجودية أساسية: الإبقاء على هيمنتها السياسية على النظام السياسي اللبناني، لاسيما من خلال الوسائل العسكرية.

على الرغم من الانتكاسات والتحدّيات، من المستبعد أن يتراجع حزب الله عن ركائز استراتيجيته السياسية والعسكرية.

مصادر القوة

يشكّل امتلاك القوة العسكرية واستخدامها الوسيلة الأساسية التي يلجأ إليها حزب الله بغية الاستمرار في فرض هيمنته السياسية. ويُذكَر في هذا الإطار أنه الحزب اللبناني الوحيد الذي سُمِح له بالاحتفاط بسلاحه بعد توقيع اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهلية اللبنانية في العام 1989، الأمر الذي منحه القدرة على تعزيز قواه العسكرية إلى حد كبير.

وقد استمرّ حزب الله في الاحتفاظ بسلاحه، بعد انسحاب إسرائيل شبه الكامل في العام 2000 من الأراضي اللبنانية التي احتلّتها طيلة عقدَين، ثم انسحاب القوات السورية في العام 2005 بعدما كانت قد دخلت إلى لبنان في إطار قوات حفظ السلام خلال الحرب الأهلية. كما أنه عمد إلى تعزيز جهوزيّته وقدرته على فرض سيطرة عسكرية كاملة على الأراضي اللبنانية عند الاقتضاء. واقع الحال أنّ قوّة الحزب العسكرية الهائلة تتخطّى بأشواط كبيرة قدرات الجيش اللبناني الضعيف وغير المجهّز كما يجب.

وقد دأب حزب الله على استغلال ضعف الجيش اللبناني من أجل الحصول على الدعم لشرعية ترسانته العسكرية، وهو ماضمنته البيانات الوزارية لجميع الحكومات اللبنانية التي تعاقبت على الحكم بعد الطائف. وجاء خطاب الحزب ليكرّس ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة”، ما أتاح له الاحتفاظ بسلاحه خارج إطار الدولة اللبنانية.

تتوقّف قدرة حزب الله على الاحتفاظ بهيمنته السياسية والعسكرية على عددٍ من العوامل. فهو يحتاج إلى تحالف قوي مع النظام السوري من أجل ضمان وصوله إلى السلاح لأن سورية هي المعبر الأساسي لنقل الأسلحة من إيران، الراعية الأكبر للحزب، إلى لبنان. ومنذ انسحاب القوات السورية من لبنان، تحوّل حزب الله إلى أداة السيطرة البعثية على المكوّنات اللبنانية.

يسعى حزب الله أيضاً إلى ضمان مصالح جمهورية إيران الإسلامية وتمثيلها على ساحل المتوسط، وفي شكل خاص على طول الحدود مع إسرائيل. فالحزب تأسّس على يد إيران التي تتولّى أيضاً تدريبه وتزويده بالإمدادت ودعمه وتوجيهه، كما تجمعه بها روابط أيديولوجية. فهو يرتكز على عقيدة الشيعة الاثني عشرية التي ظهرت إلى الواجهة في إيران مع الثورة الإسلامية في العام 1979، ويستخدمها أساساً للمطالبة بمنح الشيعة مزيداً من السلطة وحصّة أكبر في النظام السياسي اللبناني.

أما على المستوى الداخلي، فتتوقّف قوة حزب الله على قدرته على السيطرة على النظام السياسي اللبناني والوصول إلى المؤسسات السياسية الأساسية كافة. سيطرة الحزب على السلطة التشريعية أمرٌ مضمون، فالميثاق الوطني اللبناني – وهو عبارة عن اتفاق غير مكتوب ينظّم توزيع السلطات بين الطوائف المختلفة – يعهد برئاسة مجلس النواب إلى الطائفة الشيعية، وقد نجح حزب الله في فرض أحد حلفائه المقرّبين في هذا المنصب. وحاول الحزب أيضاً السيطرة على مسؤولي السلطة التنفيذية الذين يمثّلون معسكرات سياسية منافسة له، مثل رئيسَي الجمهورية والوزراء، أو إضعافهم.

لكن الحزب يواجه حالياً عوائق وتحدّيات على كل هذه الجبهات، بسبب مجموعة من العوامل أبرزها تورّطه في النزاع السوري، ومواجهاته مع المتشدّدين السنّة، والاتفاق الذي تم التوصّل إليه بوساطة أميركية وروسية من أجل تسليم سورية أسلحتها الكيميائية، والمفاوضات النووية الإيرانية، والدعم الدولي للجيش اللبناني، والمحكمة الخاصة بلبنان التي أنشئت للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، والتي وجّهت اتهاماً إلى خمسة عناصر من حزب الله.

النزاع السوري

يشكّل تدخّل حزب الله في سورية، أساساً، محاولةً لضمان بقائه عبر الحفاظ على خطوط إمداداته العسكرية ودعم النظام السوري الحليف برئاسة بشار الأسد. فقد وجد الحزب أن إمداداته العسكرية مهدّدة بسبب عدم الاستقرار الذي أحدثته الانتفاضة السورية. وهكذا، من أجل الحفاظ على خطوط الإمدادات، تدخّل الحزب لمساعدة النظام السوري عبر خوض مواجهة مباشرة مع الثوّار السوريين.

والآن، يسعى حزب الله جاهداً لإضفاء شرعية على تدخّله في النزاع السوري. فالمجتمع اللبناني منقسم بشدّة حول المسألة، في ظل معارضة عدد كبير من المواطنين اللبنانيين لنظام الأسد، ما أسفر عن انطلاق حملات على صعيد البلاد ضد تورّط حزب الله في سورية.

يسوق حزب الله عدداً من الذرائع لتبرير مشاركته في النزاع. فهو يدّعي، على سبيل المثال، الدفاع عن المقامات الدينية الشيعية التي تتعرّض إلى التهديد من التنظيمات السنّية المتطرفة المناهضة لنظام الأسد في سورية. وتخدم هذه الذريعة مآرب الحزب لأنها تساعد على إثارة شعور قوي بالتماهي والانتماء لدى أنصاره ومقاتليه. فتوليد مثل هذا التماهي الديني هو أداة قويّة لتجنيد المقاتلين وتحفيزهم وتعبئتهم.

في أحيانٍ أخرى، يقول “حزب الله” إنه يقاتل المتطرّفين السنّة في سورية لمنع هؤلاء التكفيريين (مقاتلين سنّة متشدّدين يرتبطون بتظيم “القاعدة” ويعتبرون أن المسلمين الآخرين وغير المسلمين هم هراطقة) والجهاديين من دخول لبنان. ويشدّد الحزب في خطابه على أن هذه القوى تهدّد أمن لبنان عبر شنّ هجمات إرهابية على الأراضي اللبنانية في محاولة منها لفرض سيطرة المتشدّدين السنّة على البلاد، الأمر الذي يشكّل تهديداً على الشيعة.

فيما ينخرط حزب الله بقوة في القتال إلى جانب نظام الأسد في سورية، عمد إلى تكييف خطابه ليتضمّن إشارات إلى خوضه “حرباً على الإرهاب” بهدف حماية المكوّنات السورية، لا الأراضي اللبنانية فحسب. إنها محاولة لتغيير صورته في نظر الرأي العام السوري، بحيث يتحوّل من معتدٍ أجنبي يدعم نظام الأسد إلى مدافع عن السوريين يحاول أن يضمن سلامتهم ويحميهم في مواجهة المجموعات الإرهابية الأجنبية التي تتوافد من مختلف أنحاء العالم للقتال في سورية.

حتى إن حزب الله دعا خصومه اللبنانيين إلى محاربته في ساحة المعركة في سورية للحؤول دون تصاعد الحملات الداخلية وتحوّلها إلى مواجهة عسكرية في الداخل اللبناني. من شأن مشاركة خصومه في النزاع السوري أن تساهم أيضاً في إضفاء شرعية على تدخّل الحزب في القتال: فبهذه الطريقة تحظى تحرّكات الحزب في سورية بقبول أكبر لدى الرأي العام اللبناني، لأن حزب الله لن يعود، في هذه الحالة، التنظيم الوحيد المتورّط عسكرياً في نزاع خارج الحدود اللبنانية.

لكن الحزب لم ينجح في انتزاع الشرعية حول تدخّله في النزاع السوري. فالتداعيات السلبية التي يتحمّلها اللبنانيون من جرّاء الحرب الدائرة في سورية أكبر من المنافع. لقد تدفّق اللاجئون السوريون بأعداد هائلة إلى لبنان، مع مايترتّب عن ذلك من أعباء اقتصادية وديمغرافية ضخمة، في حين أن معظم التعهّدات الدولية بتقديم المساعدة لم تجد طريقها إلى التنفيذ. كما أن المسلّحين السوريين حوّلوا البلدات الحدودية اللبنانية إلى منطلق للعمليات العسكرية في سورية، بل أيضاً للهجمات على معاقل حزب الله. وقد تجلّى ذلك في الكثير من المواجهات التي وقعت في سلسلة الجبال على طول الحدود مع سورية، وفي بلدات في شمال لبنان كما في سهل البقاع. فهذه المناطق تشكّل ممرّات طبيعية وملاذات آمنة، ما يُسهّل على المسلّحين السوريين شنّ هجمات على القوافل العسكرية التابعة إلى حزب الله في طريقها إلى سورية.

علاوةً على ذلك، اتّسعت دائرة المواجهة بين حزب الله والتنظيمات السنّية المتشدّدة على ضوء وقوع عددٍ من التفجيرات الانتحارية في الداخل اللبناني، ولاسيما في معاقل الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت. لأنّ الحزب أصبح مكشوفاً في الداخل، هو يعمد إلى تكثيف جهوده الأمنية من أجل درء هذه المخاطر. للمرة الثانية منذ العام 1996، حشد الحزب مقاتليه ونَشر عناصره على الجبهات كلّها بغية حماية معاقله في لبنان. وهو يهدف من خلال ذلك إلى إحداث تغيير حقيقي على الأرض يُتيح له تفادي التعرّض إلى التهميش السياسي، والحفاظ على أمنه، ومواصلة عملياته العسكرية.

لن يتراجع حزب الله ولن ينسحب من سورية تحت تأثير هذه الضغوط. فهو لن يغادر قبل أن ينتزع اتفاقاً شاملاً من أي قيادة سورية جديدة لضمان خطوط إمداداته العسكرية. لن يتزحزح حزب الله عن هذه الركيزة التي فرضت تدخّله في النزاع السوري. لا بل يتورّط عملياً في مواجهة مفتوحة مع المجموعات المتشدّدة، وسوف يواجه خيارات صعبة في الداخل.

إذا تمكّن حزب الله من هزم أعدائه السنّة على الأرض، في سورية ولبنان على حدٍّ سواء، وتعزيز المكانة العسكرية لنظام الأسد أو الحصول على دعم الرأي العام السوري لتدخّله في النزاع، فسوف تكون أمامه فرصة جيّدة لأداء دور أساسي في أي تسوية محتملة في المستقبل، حتى لو لم يكن بشار الأسد جزءاً منها. وبغية تحقيق ذلك، عمد الحزب إلى تصعيد عملياته العسكرية مباشرةً قبل كل جولة جديدة من محادثات السلام في مؤتمر جنيف، خشية أن يتعرّض إلى التهميش في هذه المفاوضات.

الأسلحة الكيميائية

شكّل الاتفاق الذي وقّعته دمشق مع المجتمع الدولي في خريف 2013 لتدمير أسلحتها الكيميائية، تحدّياً إضافياً بالنسبة إلى حزب الله. فلطالما اعتُبِرت الترسانة الكيميائية السورية رادعاً يحول دون خوض إسرائيل مواجهة شاملة ومباشرة مع سورية.

بغية تطوير ترسانة صاروخية ضخمة، حاول الحزب، بمساعدة سورية، بناء إمكاناته الخاصة في مجال الأسلحة الكيميائية، متذرّعاً باستمرار بالنظرية التي تتحدّث عن الحاجة إلى إرساء توازن رعب مع إسرائيل. ولهذه الغاية، استخدم الحزب المنشآت الكيميائية السورية واعتمد على التدريب من الخبراء السوريين والإيرانيين. لكن بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي 2118 الذي فرض على سورية تفكيك برنامجها الكيميائي وتدمير أسلحتها الكيميائية ومنشآت تصنيع السلاح الكيميائي، لم يعد بإمكان حزب الله الوصول إلى المرافق اللوجستية الضرورية لتطوير إمكاناته في مجال الأسلحة الكيميائية. بناءً عليه، تتوقّف الخيارات المتاحة أمام الحزب مستقبلاً لتطوير إمكاناته في مجال الصواريخ التقليدية، على امتلاكه صواريخ بالستية استراتيجية يمكن استخدامها في أي نزاع مع إسرائيل.

نظراً إلى أولويات الحزب العسكرية، من غير المرجّح أن يسعى إلى امتلاك صواريخ بالستية استراتيجية حتى لو كان قادراً على ذلك. ففي حال امتلك حزب الله مثل هذه الترسانة، من شأنه أن يتحوّل إلى تهديد حقيقي لإسرائيل التي لن تتردّد في ضرب الحزب. لكن في ظل الظروف الراهنة، ليس من مصلحة حزب الله ولا من أولوياته إشعال نزاع عند حدود لبنان الجنوبية مع إسرائيل ونشر إمكاناته العسكرية عبر جبهات عدّة. فالنزاع في سورية هو الآن الأولوية العسكرية القصوى بالنسبة إلى الحزب، فضلاً عن الحفاظ على الأمن في معاقله في لبنان.

يستخدم حزب الله حالياً التهديد الإسرائيلي لمصلحته. اشتدّت وتيرة التشنّجات في لبنان في شباط/فبراير 2014 بعد تشكيل حكومة جديدة في بيروت. فقد ظهر خلافٌ على خلفية التباين في الآراء حول البيان الوزاري الذي يُحدّد الخطوط العريضة العامة لسياسة الحكومة الجديدة. اقترح البعض تضمين البيان الطلب من حزب الله إنهاء مشاركته في النزاع السوري وسحب قواته من هناك. في حين اقترح البعض الآخر الإبقاء على معادلة “الجيش والشعب والمقاومة” التي أضفت شرعية على سلاح حزب الله، باعتبارها حاجة وطنية في مواجهة أي عدوان إسرائيلي ومن أجل حماية الأراضي اللبنانية.

في خضم هذا السجال، باشر حزب الله، في 24 شباط/فبراير 2014، نقل صواريخ بالستية من المستودعات السورية إلى الحدود اللبنانية. فشنّت إسرائيل غارة جوية ودمّرت الشاحنات التي كانت تنقل الأسلحة. وهكذا تمكّن حزب الله، من خلال هذه الخطوة التكتيكية، من لفت انتباه الرأي العام اللبناني من جديد إلى التهديد الإسرائيلي – من دون المجازفة بفتح جبهة شاملة على حدود لبنان الجنوبية. وقد استغلّ ممثّلو حزب الله في لجنة صياغة البيان الوزاري الهجوم الإسرائيلي لتبرير تمسّك الحزب بمعادلة “الجيش والشعب والمقاومة”.

إعادة التموضع التكتيكية

طرح الاتفاق النووي الإيراني تحدّياً إضافياً على حزب الله الذي لطالما اعتبرته إيران قصّة النجاح الأكبر والركيزة الأساسية في سياستها الخارجية التي ناصبت على الدوام العداء للولايات المتحدة منذ إنشاء الجمهورية الإسلامية.

بيد أن المفاوضات الأميركية-الإيرانية التي جرت مؤخراً خلف الكواليس حول البرنامج النووي الإيراني والاتفاق المؤقت الذي أسفرت عنه، سلّطت الضوء على حدوث تحوّل جذري في السياسة الخارجية لجمهورية إيران الإسلامية التي بدأت تُظهر انفتاحاً حيال الغرب.

ويتمثّل الدافع الأساسي وراء هذا التغيير المهم، في الانكماش الاقتصادي الذي تعاني منه إيران جراء العقوبات الدولية عليها. وقد كان لتدهور الاقتصاد الإيراني تأثير اقتصادي كبير على حزب الله نظراً إلى أن إيران كانت ولاتزال الراعية الأولى لمؤسسات حزب الله الأمنية والعسكرية والاجتماعية والسياسية والدينية.

نظراً إلى هذا التقارب في العلاقات بين طهران والغرب، خفّف حزب الله من حدّة لهجته ضد الولايات المتحدة، حتى إنه التقى مع الخطاب الأميركي في خطابه المناهض للإرهاب.

لكن على الرغم من هذا التموضع التكتيكي الجديد، لن يسير حزب الله على خطى إيران. فهو لن يدخل في حوار مباشر مع الولايات المتحدة ولن يتعاون معها لتحقيق أهداف مشتركة، حتى لو التقت مصالحهما، ولاسيما في مايتعلق بالجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة التي تنشط في سورية. أحد المبادئ التأسيسية التي قام عليها حزب الله هو التصدّي لمصالح الولايات المتحدة وتدخّلها في الشرق الأوسط. في السابق، صبّت المواجهة بين التنظيمات التابعة للقاعدة والأميركيين في العراق وأفغانستان، في مصلحة الحزب. واليوم، يخدم ضلوع المجموعات السنّية المتطرّفة في القتال في سورية، أهداف الحزب. فوجود هؤلاء المتشدّدين يحول دون قيام صانعي السياسات الأميركيين بتزويد المعارضة السورية بالسلاح خوفاً من وصوله إلى أيدي التنظيمات التابعة للقاعدة.

فضلاً عن ذلك، سيُفيد حزب الله من أي انتكاسة أميركية، سياسية أو عسكرية، في المنطقة، لاسيما في سورية ولبنان، ويستغلّها لمصلحته.

المشاغل السياسية الداخلية

في غضون ذلك، يواجه حزب الله مسائل مهمة تثير قلقه على الصعيد الداخلي، منها تنامي الدعم للجيش اللبناني الذي حصل مؤخراً على هبة قدرها ثلاثة مليارات دولار أميركي من السعودية، كما أن مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، التي أنشأتها الأمم المتحدة من أجل تعزيز الاستقرار في البلاد، تعهّدت في آذار/مارس 2014 بمواصلة الدعم للجيش اللبناني.

إذا ظهرت قوة عسكرية تضاهي حزب الله فعاليةً ونفوذاً، فقد تتمكّن من تعطيل دور السلاح في يد الحزب، ولاسيما كقوة مضادة في مواجهة إسرائيل، الأمر الذي يؤدّي إلى إضعاف مكانة الحزب. فهذا الأخير يستخدم عجز الجيش اللبناني عن الدفاع عن البلاد ضد العدوان الإسرائيلي، نظراً إلى مايعانيه من ضعف ونقص في التجهيزات، ذريعةً للاحتفاظ بسلاحه.

غالب الظن أن حزب الله لن يُغيّر مساره، بل سيحاول استخدام القنوات السياسية لقطع الطريق أمام إمكانية انطلاق نقاش حول الاستراتيجية الدفاعية للدولة اللبنانية ومستقبل سلاح الحزب، وذلك عبر إدارة وتوجيه القوة الوليدة للجيش اللبناني نحو المواجهة مع الجماعات الإسلامية المتشدّدة، مايساهم في الحؤول دون وقوع صدامات مع الحزب. وهكذا يتجنّب حزب الله مواجهةً حقيقية بين جناحه العسكري وبين الجيش اللبناني، وتنحسر الضغوط التي يتعرّض إليها في الداخل، مايُتيح له توظيف مزيد من الموارد في النزاع السوري وفي إحكام الطوق الأمني حول معاقله.

في غضون ذلك، جاءت انطلاقة جلسات المحاكمة في المحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي لتضع حزب الله في مواجهة شريحة واسعة من المجتمع اللبناني. فالمحاكمة تطال عناصر وقياديين في الجناح العسكري والأمني للحزب صدرت اتهامات بحقّهم في قضية اغتيال الحريري.

على الرغم من الدعم الدولي والداخلي للمحكمة الخاصة بلبنان، ومن الأدلة التي يمكن أن تُبرِزها ضد المتّهمين، لن يتعاون حزب الله مع التحقيق. ويرفض الحزب حالياً السماح للسلطات اللبنانية بتنفيذ مذكّرات التوقيف الصادرة عن هيئات المحكمة الخاصة بلبنان.

لن يسلّم حزب الله كبار قيادييه المتّهيمن بالضلوع في اغتيال الحريري. فمن شأن هذه الخطوة أن تضع الحزب في دائرة المساءلة، وتُشوِّه صورته كتنظيم مقاوِم في نظر الرأي العام اللبناني، وتجرّده من المصداقية بعدما اتّهم المحكمة الخاصة بلبنان، منذ إنشائها، بالعمالة للخارج والعمل من أجل تقويض “المقاومة” التي يقودها. من الثوابت التي يتمسّك بها الحزب في مقاربته للأمور عدم استعداده للتخلّي عن أي من المبادئ الجوهرية التي تؤثّر في مصالحه العسكرية والأمنية. كما أنه لايتهاون أبداً في استعداده المطلق للتصدّي لأي محاولة تهدف إلى كبح تأثيره أو التعدّي على مصالحه، حتى لو كانت من أفرقاء محليين.

وقد جاء تشكيل حكومة جديدة في لبنان، اصطُلِح على تسميتها “حكومة المصلحة الوطنية”، في شباط/فبراير 2014، ليطرح مزيداً من التحدّيات على حزب الله ومصالحه. انضم الحزب إلى الحكومة، إلا أن هذا لايعني أنه مستعدّ لتقديم تنازلات في المسائل الجوهرية.

على المستوى السياسي، من شأن أي فراغ حكومي أو شلل في عملية صنع القرارات داخل المؤسسات الرسمية اللبنانية أن يُتيح لحزب الله تحقيق أهدافه العسكرية من دون أن يخضع إلى المساءلة من الدولة. تملأ الحكومة الجديدة هذا الفراغ، ويمكنها أيضاً أن تسلّط الضوء على دور الحزب في سورية وأن تمارس ضغوطاً عليه، على الصعيدَين الداخلي والدولي.

لاتعني مشاركة حزب الله في الحكومة الجديدة أنه حصل على تنازلات من الأفرقاء الآخرين بشأن تدخّله في سورية، كما أنها لاتعني بالتأكيد أنه تم التوصّل إلى اتفاق حول إلغاء الإشارة إلى معادلة “الجيش والشعب والمقاومة” من البيان الوزاري – بل إن حزب الله لم يتخلّ عن التزامه هذه المعادلة، وقد تضمّن البيان الوزاري الذي أقرّه مجلس النواب في أواخر آذار/مارس الماضي، إشارة واضحة إلى المقاومة. كانت الصيغة التي وافقت عليها لجنة صياغة البيان الوزاري كافية كي يحافظ حزب الله على شرعيته. صحيح أن الحزب قدّم بعض التنازلات وتخلّى عن جزء من حصّته من الحقائب الوزارية لحلفائه، إلا أنه لن يسمح بأي خطوات من شأنها أن تقوِّض شرعية قوّته العسكرية.

يسعى حزب الله، من خلال مشاركته في الحكومة، إلى الدفاع عن مصالحه الاستراتيجية عبر تهدئة الوضع السياسي الداخلي بصورة مؤقّتة، بما يُتيح له الحفاظ على تركيزه الأساسي على النزاع السوري وتعطيل الحكومة الجديدة من الداخل في حال تسبّبت بتهديد مصالحه.

هذا وسيعمل الحزب أيضاً على حماية مصالحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فالتنظيم لن يسمح بحدوث هذه الانتخابات من دون إذنه وموافقته المسبقة على الرئيس العتيد. في هذا السياق، يستطيع حزب الله إطاحة الحكومة الجديدة في أي وقت، مستخدماً سلطة التعطيل نفسها التي تمتّع بها في الحكومات السابقة. وفي هذه الحالة، يبقى مقعد الرئاسة شاغراً.

مراجعة ذاتية ولاتغيير في النهج

لايزال حزب الله يعمل بحسب القواعد القديمة للعبة السياسية اللبنانية، التي تقوم على تقديم الحد الأدنى من التنازلات من أجل تحقيق مكاسب أكبر. بيد أن عملية المراجعة الذاتية التي يقوم بها الحزب لم تدفعه نحو إجراء تغيير مهم في سلوكه على الساحة الداخلية، أو التضحية بدوره الإقليمي من أجل تحقيق الوحدة الوطنية الموعودة منذ زمن والعمل في سبيل قيام دولة لبنانية قوية.

السابق
توقيف شخص في جونيه لارتكابه سرقات من داخل السيارات في الضاحية الجنوبية
التالي
الظواهري يدعو الى تحكيم شرعي مستقل لوقف المعارك بين الجهاديين في سوريا