رئيس جمهورية أم جمهورية بلا رئيس!

بدأت المهلة القانونية لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية: وكما كانت مشاورات لتعيين رئيس للحكومة. عُين الرئيس سلام، ثم مضت شهور قبل أن تؤلف الحكومة. تؤلف الحكومة ثم يبدأ «التنتيع» حول البيان الوزاري. يتفق بشكل هجين على البيان الوزاري وتنال الحكومة الثقة، ثم تحاصر بالتفجيرات في طرابلس وعرسال وفي بيروت. وبين تأليف الحكومة والبيان وما بعدهما تبدأ مرحلة تنتيع أخرى… لانتخاب رئيس الجمهورية، والذي يعتبر أحد الاستحقاقات الرئيسية في هذا الصراع المرير بين مهددي استمرار الدولة اللبنانية بجيشها ومجلسها النيابي ومؤسساتها وسيادتها وأمنها وحدودها… وبين المدافعين عنها. وهنا بدأت تظهر تقاسيم المرشحين للرئاسة من الموارنة. أي رئيس؟ أي جمهورية؟ أي استراتيجية؟ أي رؤيا؟ أي برنامج عمل؟ أي مواصفات؟ أي مواقع؟ لكن المهم في كل ذلك أن رئيس الجمهورية ينتخبه مجلس النواب، ومعظم القيادات السياسية تنتخب نفسها في أحزابها. (تماماً كالأنظمة العربية!). والسؤال الأساسي: صحيح أن المجلس من واجبه الدستوري أن ينتخب رئيس البلاد بالأكثرية المطلقة في الدورة الثانية. لكن مع هذا من ينتخب الرئيس؟ وإذا انتخب ماذا سيكون دوره الحقيقي، سواء في ما يتعلق بالدستور. أم في ما حوله، أم فوقه، أم تحته: إنها الديموقراطية؟ ماذا؟ نعم! إنها الديموقراطية؟ لكنّ للديموقراطية شروطاً لتكون ديموقراطية، لا أوليغارشية، فتصبح نهباً لمجموعات السلطة أو التسلط، أو أوتوقراطية: لا جمع بين الديموقراطية وهذه الأوتوقراطية التي تصبح عبرها الجمهورية نهباً «للشموليات» الفوقانية أو التحتانية أو السموية أو المقدسة: الديموقراطية تجافي ما يحول بينها وبين قوانينها الوضعية، ولا «وصائية» بالمعنى الذي كان يُختار فيه الرئيس من الوصاية السورية (وحتى الاسرائيلية). الذي لا يمتلك فيها غير اسمه ونسبه ومنصبه… وقامته!

لكن نحن لسنا لا في نظام شمولي يُفرز رئيس 99،99 بالمئة (وقد تؤدي التوافقية إلى هذه النتيجة) ولا نظام رئاسي (كما في فرنسا وأميركا وبريطانيا). انما نحن في نظام برلماني: القوى السياسية تنتخب في مكان محدد اسمه البرلمان رئيس البلاد. لكن ما وضع البرلمان؟ هل هو برلماني «نيابي» أو برلمان تجميع القوى الخارجية وحصصها، وناسها؟ ولا نحن في «نظام وراثي» (يقال إن لبنان كان البلد الوحيد الذي يحكى فيه عن الرئيس السابق). إذاً الانتخابات الرئاسية هي ما تتمخّض عنه افتراضاً، الأكثرية. فهل تستطيع أي أكثرية (خصوصاً المدنية أن تنتخب الرئيس؟).

وإذا أردنا أن نتلمّس بعض ما يحوم حول موضوع هذا الاستحقاق الجمهوري، علينا أن ننصت إلى ما بدأ يلوح حوله. مثلاً «صحافيو» 8 آذار بدأوا «يتكلّمون» عبر أقلامهم «الحرة» (بإذنه تعالى) عن الفراغ. (يذكرون بما مرت به حكومة سلام، وحكومة الرئيس سعد الحريري… وصولاً إلى حكومة القمصان السود). إنه بعبع الفراغ، والذي قد يتضمّن «الفوضى» الأمنية، في حال كذا وكذا… وهذا المنحى عرفناه على طول امتداد وجود الوصايات عندنا: وإما تخضعون لما نريد… أو الحرب الأهلية، أو التفجيرات الأمنية أو الاغتيالات، أو التخوين، أو التكفير… هذه اللازمة اللازبة بدأ يعزفها اليوم من يحملون أقلاماً بلا حبرهم ولا خطوطهم. أكثر: بدأت بعض المحاور «تُفهم» من يمكن أن ينتخب رئيساً أن العُدُة الأمنية والعسكرية التي تمتلكها هذه الجهات كلها جاهزة، لإفراغ الموقع الرئاسي من دوره. (هذا ما فعلوه سابقاً مع الرئيس الهراوي، وإميل لحود… وحاولوا عبثاً تطبيقه على الرئيس الحالي ميشال سليمان). والأدلة الدامغة شهرُ التفجيرات منذ الآن في وجه الرئيس العتيد، إذا إراد فعلاً أن يكون رئيساً لا باشكاتباً (اميل لحود)، وتهيئة التهديدات وأدوات التسفيه إلى كل ما في جعبة المؤتمِرين بالوصايتين السورية والإيرانية! حتى الرئيس بشار الأسد، الذي «يمانع» مع المقاومة في إنجازاته التدميرية لبلده، يُدلي بدلوه: «يجب أن يكون رئيس جمهورية لبنان المقبل من قوى الممانعة». لم يذكر أين: هل في الجولان. أو في حلب. أو في مقام السيدة زينب. أو مزارع شبعا… أو فلسطين! انها التماحة على إصرار النظام السوري الذي فقد كل مقومات النظام على أن «يؤتي» برئيس يزج أو يكرس زج لبنان في الصراع السوري بالطبع لمصلحته. وهنا نجد أن «أدبيات» الحزب الإلهي بدأت منذ فترة (وعلى الرغم من تورطها في الحرب السورية وتقديم مئات الشباب الشيعة ذبائح كرمى لايران ومصلحتها، ما زالت وبروح شيزوفرينية، فصامية، تعتبر أن المقاومة التي حاربت إسرائيل ما زالت المقاومة نفسها التي تقتل الشعب السوري دفاعاً «ممانعته» وتأكيداً لسرمديتها. من دون أن تغفل الجبهات الداخلية المسلحة وسراياها «الغستابوية» المنتشرة في بيروت والضاحية وطرابلس والبقاع… كل هذه «المواقع» الكانتونية المسلحة جاهزة لتشكل وسائل ضغط على «ماهية» الرئيس المقبل، وكيفيته، وقماشته، وتطلعاته، وأجندته. واذا اردنا رسم هذه المواقع التي تحاصر الانتخابات، نجد أن هذه الأخيرة تحتل مساحة ضيّقة، محدّدة، وحولها، وفوقها، كل ما من شأنه أن يأسرها، أو يخضعها، أو يفرغها، أو يحولها مجرد «وجود» شكلي أو صوري، أو هش (تذكروا إميل لحود!). يعني أن سقفهم العالي (أقصد 8 آذار والحزب) تسفيه الموقع الرئاسي وتفكيكه، وفصله عن متطلبات الدستور؛ ويعني أن سقفهم «الأوطأ» الإتيان برئيس للجمهورية، لا يكون رئيساً ولا تكون الجمهورية جُمهورية (كتبنا في السابق أن الوضع مع إميل لحود هو: رئيس بلا جمهورية وجمهورية بلا رئيس) أو تكون سقوفهم «التوافقية»: رئيساً متفقاً عليه داخلياً ومباركاً خارجياً، يُدير كل الأزمات (أو تديره) ليبقى الوضع على حاله: رئيس فخري، جمهورية مفترضة. برلمان بلا نواب. نواب بلا برلمان. حكومة لا تحكم. ووزراء يُحكمون. أي أن يسود «الفراغ» «المليء» بأضغاث الفراغ نفسه. وهنا بالذات نبحث عن سقوف 14 آذار «الرئاسية». فعندنا سقف سمير جعجع «العالي» (وهو السقف العادي والبديهي) وعندنا شغف بعض المرشحين الآخرين: الشيخ بطرس حرب البرلماني بامتياز، هل سيكون خطابه المعروف «بجديته» أو سيتحول مفردات! وهناك بالطبع خطاب الرئيس سعد الحريري: فالمحكمة بدأت: وهو ما زال في الخارج بفعل ممارسة 8 آذار وخصوصاً حزب الله «سياسة» التهديد… والاغتيالات! فهل «سيُدوّر الزوايا» أو سيتركها مُسننة! أي هل سيعمل مع تيار المستقبل و14 آذار على الاستمرار في معركة مبادئ 14 آذار ومنها: رئيس سيادي، استقلالي، قوي، لبناني- عروبي الاتجاه (في وجه النزعة الفارسية المستغربة) أو سيكون عليه أن يأخذ مجمل الاعتبارات الداخلية، والاقليمية والدولية في الحسبان. وهناك الكتائب: الذي يرفع صوته عالياً بالمطالبة برئيس قوي، يحافظ على موقع الرئاسة، وعلى الدولة… ومن دون أن يعلن حتى الآن ترشيح أحد، وإن كان الرئيس السابق أمين الجميل من المطلين الدائمين على الصورة. وهل ننسى سليمان فرنجية الذي يحاول أن يلعب لعبة الجنرال عون؟ بين الحزب الإلهي والنظام السوري وإيران، وماذا عساه سيقول: هل سيُطالب الحزب بالانسحاب من سوريا؟ هل سيطالب الحزب بالكف عن دعم آل عيد في جبل محسن؟ هل سيطالب الحزب بتفكيك كانتوناته المسلحة في الضاحية والجنوب والبقاع؟ هل سيصرخ «نريد السيادة» والديموقراطية! لا أعرف! يبقى الجنرال عون الذي يبدو أنه غيّر نسبياً من وتائر سياسة تصديه لكل ما هو سيادي عند 14 آذار ولكل ما تتطلع إليه 14 آذار! الاستقلال، والنأي بالنفس عن الحرب في سوريا… أو عن ورقة التفاهم المشؤومة بينه وبين الحزب… يبدو أن عون هنا خفض من منسوب «علاقته» بـ8 آذار ربما إعلامياً أو علانية، ربما أملاً في أن يكون رئيساً توافقياً بعد أن فشل في أن يكون «رئيساً» منحازاً إلى فريق. وها خطابه الحنون، العاقل، الحكيم، الهادئ، يماري الجميع. وهذا من حقه، أن يختار ما يشاء من أسلوب للوصول إلى مراده. وهذا يفسّر اجتماعه مع الرئيس سعد الحريري الذي أراده سرياً… ثم سربه إلى وسائل الإعلام للضغط ربما على «حلفائه»؛ وهذا يفسّر الأخبار التي ترشح عن احتمال زيارته السعودية. أكل هذا من باب المناورة أو المداورة أو اتخاذ «موقع» جديد؟ وهنا بالذات تبرز «مبدئية» سمير جعجع في سقفه «العالي» وسياسة عون المحكومة السقوف. لكنْ هؤلاء المتصدرون الواجهة، أيكونون في «محرقة» الواجهات الأولى أو سيمضون، لكن مع من، وإلى أين؟ وهل ننسى احتمال أن يكون قائد الجيش من الواردين في اللائحة «الضمنية»، أو الأوراق «المخبأة» حتى النهاية! لكن هل يمكن التكهن بأسماء اللحظات الأخيرة؟ نقصد هل يرفع بعضهم النبرة ليعطل انتخاب هذا المرشح بترشيح نفسه؟ هل سيبقى سمير جعجع على مبدئية خطابه وبرنامجه أو ستكون هذه المبدئية محاولة لإبعاد بعض المرشحين كميشال عون؟ وهل سيبقى عون على هدأته الظاهرة لكي يكون هو البديل «المرن» فيعطل النبرات العالية لمصلحة «الصفقة»! وماذا سيكون موقف تيار المستقبل عندها الذي يتمسك بأولويات بارزة لا لبس فيها واضحة، شفافة: الدولة، لا شريك لها في انتزاع دورها، المقاومة تحت مرجعية الجيش، انسحاب الحزب من سوريا، المناصفة، الرئيس القوي أو الجذور الضاربة في مصالح هذا الوطن، وتحديد ماهية الإرهاب الذي اتهم به كل السنّة المعتدلين في لبنان، وربما كل العرب.

إذاً بدأت المهلة القانونية لانتخاب رئيس للجمهورية وما هو لافت أن الرئيس سليمان يرفض رفضاً قاطعاً التمديد، ويسعى إلى انتخاب رئيس جديد بالطرق الديموقراطية. لكن أهمية الرئيس سليمان أنه من موقع عدم قبوله ترشحه أو عدم قبوله التمديد رَفَعَ لكل من سيخلفه سقوفاً من الصعب أن يتجاهلها: تسليح الجيش تسليحاً يجعله قادراً بتفوقه العددي والعتادي على مختلف قوى الأمر الواقع لا سيما حزب الله، انسحاب حزب الله من سوريا، خضوع الحزب لمرجعية الدولة… وضع حدٍّ للاعتداءات السورية على لبنان، وضع حدٍّ لانتهاك الكيان الاسرائيلي والنظام السوري لحدود لبنان والإصرار على إعلان بعبدا…

هل يمكن اعتبار أن كل موقع سيحافظ على وتيرته من هنا وهناك؟ وهل يمكن أن يكون بعض المرشحين مقتنعاً بأن «أجندته» الزاخرة يمكن تحقيقها أو تحقيق بعضها قبل انقشاع الموقف الميداني في سوريا، وتسليح الجيش اللبناني بما يؤمن له على الأقل توازناً لا مع حزب الله فقط بل مع مختلف «البؤر» المسلحة التي تتنامى داخل وأطراف كانتونات الحزب المترامية. وهل سنجد بينهم من يربط ترشيحه بشرط السيادة المطلقة، ونزع السلاح المطلق، وسحب الحزب من سوريا… تماماً كما فعل العميد ريمون إده (أعظم زعماء هذا البلد وأشرفهم وانقاهم يداً) عندما رفض كل الشروط التي ارتبطت بمجيئه رئيساً بقبوله باتفاق القاهرة. إنه وحده الذي رفض اتفاق القاهرة في المجلس النيابي لأنه اعتبره مساساً بسيادة لبنان ودولته. هل من ريمون إده آخر بين المرشحين «الموارنة»؟ كل هذا الكلام قد يكون ذا جدوى أو بلا جدوى، لأن المعركة الخلفية لرئاسة الجمهورية، هي أساسية (لا في الإتيان برئيس ذي مواصفات أو أجندة أو رؤيا (وهذا لا يهم كثيراً صُناع الرؤساء) هي وجود الجمهورية. الجمهورية بمعناها الواسع التي تحضن مختلف المضامين والأدوات لبناء الديموقراطية والسيادة والقانون وحرية التعبير والتعددية. هذا مفهم الجمهورية الديموقراطية التي تختلف عن الجمهوريات الأوليغارشية أو الشمولية، الايديولوجية أو الدينية أو المذهبية… فلبنان المحكوم بحرياته وبإرثه، لن يكون له أن يبقى «الاستثناء» العربي إذا لم يعتبر مختلف المرشحين، ومن ورائهم من يدفعهم أو يدعمهم إذا فقدت الجمهورية قِيَم الجمهورية. (أي القيم التي تنبع من إرادة الشعب) ومقوماتها وحدودها وهذا ما يفعله حزب الله والوصاية السورية: إفراغ الجمهورية من كل ما يصنع منها جمهورية… وماذا ينفع عندها إذا انتخب رئيس بلا جمهورية، او بقيت جمهورية بلا رئيس! والمطلوب رئيس الجمهورية لا جمهورية الرئيس. ولا جمهورية رؤساء الميليشيات والكانتونات والطوائف! المطلوب جمهورية رئيس لا جمهورية رؤساء جمهورية!

السابق
فرصة (ثقافيّة) للسوريّين، وربّما للعرب؟
التالي
كل معتقل مشروع شهيد!