حمارٌ على طريق بيت مري

كنا نتوق الى مقاربة كلام البطريرك الماروني بشارة الراعي في إطلالته التلفزيونية، وكلام البطريرك «كلام الناس»، إنْ هو تفوَّه فعلى أهل السياسة أن يصمتوا، لأنهم هم أصل الشقاء والبلاء فلم يحسنوا في أمر ولم يتخلّوا، ولأنه هو مؤتمن على إرث لبنان الكبير الذي تكاد أطرافه تنفصل عنه، تلك التي استردها البطريرك الحويك في مؤتمر الصلح في باريس.

ولكنَّ ما يلوح في الإفق من مؤشرات خطيرة باتت تتقدم في أولوياتها على ما هو حوار سياسي واستحقاق رئاسي، واستنفار فولكلوري لمعالي الوزراء عملاً بالمثل الروسي القائل: «الدبّ المقيّد هو الذي يرقص». وبغض النظر عن خطة أمنية من الحبر السائل، تفضلوا واشرحوا لنا: ماذا يجري في طرابلس عاصمة لبنان الثانية، ومنها الى عاصمة لبنان الأولى، ومنهما الى سائر الشظايا في المحافظات. لأنكم… كلُّكم بليتم بالمعاصي فاسْتَتَرْتم، وفي أفواهكم الماء والحصى. فاسمحوا لي أن أشرح أنا لكم وللذين لم يكونوا قد ولدوا سنة 1975 وللذين كانوا مولودين وقد ضربهم النسيان فأقول: إننا اليوم أمام مشهد يكرر إطلالات حرب 1975 والتي استمرت نحواً من عشرين عاماً، أي نصف المدّة الزمنية التي استغرقتها حرب البسوس في العصر الجاهلي بين قبيلتي بكر وتغلب.

وهل تذكرون أنه كان في لبنان وجود فلسطيني مسلّح قد ارتدَّ خائباً من معارك شنها في الأردن في إطار حروب تفتّش عن وطنٍ بديل، فاستغل فريقاً لبنانياً كان يرفع شعار الحرمان والمشاركة، ومن أجل السيطرة على الدولة كان لا بدّ من استهداف الجيش لإسقاط السلطة فسقطت، وكان إذ ذاك ما كان من الإنقسام الطائفي والقتل والخطف والإغتيالات، وكان التهجير والتدمير يشمل كل المرافق والجماعات والمؤسسات والبيوتات بما فيها بيوت الله ورجال الدين، وحتى الله لم يسلم من الخطف على الهوية. وفي موازاة القوى المتعددة الجنسيات، وقوات السلام العربية، والقوات العسكرية السورية، قامت قيامة الميليشيات المذهبية التي أكلت الأخضر واليابس ولا تزال شياطينها حاضرة. هذه بعض العناوين الموجزة لتاريخ دموي إستمر عشرين عاماً ويزيد، كنا نظن أنه يشكل زاجراً وطنياً لمحاذرة التكرار. ولكن، ألا ترون معي اليوم أن المشهد هو نفسه يتكرر، فإذا السلاح الغريب منتشر على الأرض يناصر جماعة في وجه جماعة، وهناك خطف وقتل ومواجهات واستهدافات للجيش والمعابد ورجال الدين وهناك انقسامات طائفية وتهجير وانشقاقات مذهبية هي الأخطر مما كان عليه الإنقسام الطائفي المسيحي – المسلم سنة 1975.

الخلاصة الموجزة أن ما خلفته حرب 1975 كان تدميراً كاملاً للبنان الوطن والدولة والمؤسسات والصيغة النموذجية الفريدة في العالم، كما كان هناك تدمير لجوهر القضية الفلسطينية وتشويه كامل للحق الفلسطيني أمام المحافل الدولية. ومثلما أن الذين آزروا الوجود الفلسطيني المسلّح يومذاك، كانوا ضحية مجانية لممارساته، فإنَّ مَنْ هللوا للوجود العسكري السوري دفعوا هم ثمناً غالياً وكانوا أشرس الذين طالبوا بانسحابه. إن ما يجري اليوم في لبنان إنطلاقاً من طرابلس وبعض الأطراف الأخرى يمهّد إذا ما تعذر الحسم الى جعل عاصمة الشمال إمارة إسلامية، أو نموذجاً لمدينة سورية تتهدم تحت البراميل المتفجرة من الجو والبراميل المتفجرة من الأرض وتستدرج معها كل تلك البراميل التي تفجَّرت سنة 1975. ولهذا نكون نحن اللبنانيين أهل اختصاص نادر في التآمر على الذات واستدراج مآسي التاريخ من أجل إغتيال وطن وشعب لأَتْفَه الأسباب دونما اعتبار من التاريخ، وهكذا يصدق القول: إن من الأسباب التي أدّت الى فتنة طائفية عارمة بين المسيحيين والدروز سنة 1860 هو شجار وقع بين مكاري اصطدم حماره بكتف رجل من مذهب آخر على طريق بيت مري… ويبدو أنه منذ ذلك التاريخ لا نزال نتوارت سلالة حروب الحمير.

السابق
صلاح حنين: التوافق على الرئيس تفريغ للرئاسة
التالي
أوباما يصل إلى الرياض اليوم والعلاقات الثنائية وملفات المنطقة تتصدر المباحثات