سوريا أمام إستحالتين

ماذا يعني “إنتصار” بشار الأسد على خصومه؟

بكل بساطة، بعد الثمن الفادح الذي دفعته سوريا من روحها وعمرانها وشروط العيش الآدمي فيها… انه يعني قيام سوريا على ثلاثة أركان قديمة-جديدة: التدخل الخارجي الأعمق والأرسخ في تسيير حكمها، من إيران وروسيا إلى أميركا وأوروبا والخليح. ثم القسمة الطائفية المذهبية، التي سوف تذهب بأبعد مما كانت عليه عشية ثورتها؛ قسمة أوضح، أكثر شفافية، بنقاط تماسها الذهنية والجغرافية في آن. ثم، طبعاً، سوف تتعمق تسلطية وديكتاتورية نظامها، بعد ان يكون بشار الأسد قد نال “إنتصاره” بالنار والحديد.

بعد انتفاض الشعب على هذه الديكتاتورية بهذه الصراحة، لن يكون للخبث الديكتاتوري غير القليل من الحيلة، بعدما تحولت المطالبة بسقوطه إلى مذبحة. صحيح ان اللغة المنتصرة سوف تتغنى بسحقها لأعدائها “الإرهابيين” و”التكفيريين”، وتخرج باستنتاج خارق، بأن “تضحياتها” الطاحنة هذه، إنما قدمتها من أجل “علمانية” سوريا و”تنورها” و”معاداتها للإمبريالية والصهيونية”. ولكنها قد تكون قسمت أيضا، سوريا، إن لم يكن “جغرافيا”، فعلى الأقل في أسرار السوريين أنفسهم.

بالمقابل، ماذا يعني إنتصار أعداء بشار الأسد عليه وعلى حلفائه؟

يعني بالضبط ما يعنيه انتصار بشار: تحكم قوى إقليمية ودولية بمصير سوريا. تختلف عن القوى النظيرة الداعمة لبشار الأسد بكل ثقلها، ولكنها تشبهها من حيث طرق تدخلها وآليته، فضلاً عن النظر إلى سوريا بصفتها أرضاً لا يحكمها السوريون. الطائفية والمذهبية عند الطرف المنتصر هذا لن تحتاج إلى زوايا ولا وجهات نظر. هي مؤسِّسة لوجودها، صائغة تصورها وممارساتها العلنية. فيكون بذلك السلام أو الاستقرار المطلوب من نتاج تنظيم “القاعدة”، أو المجموعات السلفية المنافسة لها. أما الإستبداد، فحدث ولا حرج. بعض “نماذجه” الصاخبة، مثل العقوبات “الشرعية” التي إستعجلت بعض الفصائل الجهادية” المتطرفة في تطبيقها في مناطق نفوذها، والتي عارضتها بشدة فصائل إسلامية أخرى، بحجة ان وقتها لم يحن بعد… هذه العقوبات لن تتأخر في إظهار الوجه الديكتاتوري البدائي للفصائل المنتصرة.

وسط هاتين الإستحالتين يسبح الشعب السوري المنتفض. وسط هذه المعضلة الشائكة، تنهمر عليه التساؤلات: ما الذي جعل  المجموعات المسلحة الإسلامية وحدها هي التي ُمولت؟ هل كانت هناك مجموعات مسلحة إسلامية، لنقل “علمانية” أو “غير طائفية”…. تنظمت وطلبت التمويل ولم تحصل عليه؟ أم انه لم ينوجد على الأرض إلا مجموعات إسلامية؟ السؤال بطريقة أخرى: المجموعات القليلة التي أنشئت على قاعدة غير إسلامية، ونشطت وتوسعت قليلا… هل انزلقت سريعا نحو الإندماج أو التنسيق مع الجماعات الدينية؟ هل كان دافعها المال فقط؟ وهل تكون الثورة كلها مسألة مال؟ وإذا نجت المجموعات غير الدينية من السطوة الإسلامية، فهل تنجو من سلاحها يوم تنتصر الثورة وتبنى الدولة والقانون والمؤسسات؟

لا سبيل لتجنب التساؤلات، الصافية منها والمشوَّشة… حتى لو لم يكن لها جواب مُرضٍ. ولا سبيل أيضا لتجنّب الملاحظة بأن سوريا اليوم أمام معضلة حقيقية: فلا انتصار بشار على شعبها مستدام، ولا إنتصار خصومه يمدنا بالأفق.

المرحلة المستحيلة التي تمر بها سوريا اليوم أشبه بالمرحلة الإنتقالية المصرية وبالوجهة الدموية نفسها، وإن لم تكن على الوتيرة الجهنمية إياها. قد تكون الإستحالة بين الحلين المتوفرين هي من طبيعة المراحل الإنتقالية للثورات العربية. ثورات لم تتم على قياس غيرها من عقيدة ثورية وتنظيم ثوري وقادة ثوريين. حصلت قبل تشكل هذه الشروط الثلاثة، وربما قد لا تحتاج إليها لأنها فريدة من نوعها. قد تحتاج الى شيء آخر. ولكن من المؤكد إنها، أي تلك المراحل الإنتقالية، هي المجال التاريخي للتفكير أو التنظير أو التنظيم بطريقة أخرى، تخاطب الحرية، وبحرية، تغرف منها مستلزماتها. الثورة السورية وكذلك المصرية مديدة. وكلما إنتبهنا إلى طولها، أقمنا المسافة اللازمة مع أحداثها التفصيلية، وأدركنا مدى انتقاليتها الفذة.

السابق
توقيف 3 شبان داخل سيارة في كرخا بجزين
التالي
200 شخص يهاجمون قاعدة أوكرانية في القرم