انتصار لغوي لـ«حزب الله»

في زمن باتت فيه الكلمات تغني عن المقاومات، والانتصار على العدو يُستبدل بانتصار «لغوي» في حرب العبارات، من خلال الحصول على تنازل من الخصم المحلي، في زمن كهذا ليس مستغرباً ان تستغرق معركة اعداد البيان الوزاري لحكومة «المصلحة الوطنية» في لبنان كل الوقت الذي احتاجته للوصول الى «اتفاق المصلحة».

سيطرت على معركة البيان عملية تلاعب لبناني بلغة الكلام. وساهمت اللغة العربية المطواعة في هذا الجدل البيزنطي حول جنس الملائكة. وهو ما ساعد على ابقاء فريقي 14 آذار و8 آذار تحت سقف واحد، وسمح لحكومة تمام سلام ان تبقى على قيد الحياة، تجنباً لما هو أخطر.

لم يعد سراً ان المعركة دارت منذ البداية حول ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة». كيف كان يمكن ان يخرج «حزب الله» منتصراً من معركته لـ «تحرير» هذه الثلاثية «الذهبية» من «اعتداءات» جماعة 14 آذار؟ انتهى الامر بالاتفاق على البديهيات: «التأكيد على واجب الدولة وسعيها لتحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر بشتى الوسائل المشروعة». اعتُبر هذا تنازلاً من فريق «حزب الله» بالاعتراف بدور الدولة بعد ان أزيلت كلمة «المتاحة» في تفصيل الوسائل التي تستطيع الدولة اللجوء اليها للتحرير وتم الاكتفاء بالاشارة الى «الوسائل المشروعة»، على اساس أن ما هو متاح ليس مشروعاً دائماً في عرف القانون الدولي، على ما أثبت قتل وخطف الجنود الاسرائيليين، الذي فتح الباب لاسرائيل لتبرير عدوانها على لبنان في تموز (يوليو) 2006.

البديهية المقابلة التي تم الاتفاق عليها (واعتُبرت تنازلاً من 14 آذار) هي «التأكيد على حق المواطنين اللبنانيين في المقاومة للاحتلال الاسرائيلي ورد اعتداءاته واسترجاع الاراضي المحتلة». هنا ايضاً سادت الفذلكة اللفظية على المضمون، حتى بلغ الأمر حد الهزل، مثل النقاش الذي دار حول عبارة «المواطنين اللبنانيين» بدلاً من «أبناء الوطن»! وعلى رغم سوء الصياغة اللغوية في هذه الفقرة والاضافات غير الضرورية التي لا تقدّم ولا تؤخر في المعنى، مثل القول «المقاومة للاحتلال» بدل «مقاومة الاحتلال»، (لمجرد ارضاء من ارادوا الاصرار على أل التعريف)، على رغم ذلك فإن الحق في مقاومة الاحتلال هو حق يضمنه القانون الدولي، ولم يكن بحاجة الى تلك المبارزة اللغوية، التي تنطّح اليها كل سيبويه لبناني، ممّن يعرف شيئاً من اصول اللغة ومن لا يعرف.

بالنتيجة توافق «المواطنون اللبنانيون» على نص يسمح للدولة ان تحرر أرضها ويسمح لهم (أي للمواطنين الذين كانوا شعباً في «الثلاثية» السابقة) باسترجاع الاراضي المحتلة. ومن واجب اسرائيل ان تقلق من هذا التوافق الوطني، فهي لن تستطيع بعد اليوم ان تعتدي على أي جزء من ارض لبنان، بعد هذا الانتصار اللغوي الذي تم تحقيقه عليها.

سقطة وحيدة نسي «اتفاق المصلحة» ان يذكرها في البيان، هي الاشارة الى قوات «اليونيفيل» العاملة في جنوب لبنان، باعتبارها القوات المكلفة بتوفير ضمانة للدولة اللبنانية تسمح لها بمقاضاة الاعتداءات الاسرائيلية عندما تقع، وذلك بنتيجة الدور الذي يخوله القرار 1701 للقوات الدولية في الجنوب، والذي فرض حالة الهدنة على المنطقة الحدودية، وشلّ بالتالي قدرة الدولة أو اية جهة اخرى على المقاومة والتحرير.

اما ما عدا ذلك من جدل حول واجب الدولة وحق المواطنين في استرجاع الاراضي المحتلة، فلا يعدو كونه في الوقت الحاضر كلاماً بكلام، لا يصلح للصرف الا في شوارع بيروت.

السابق
سورية: الحرب الأهلية مرحلة في تاريخ الثورة
التالي
ابن بطوطة على قيد الحياة: رحلة باص من الكولا إلى صور