غزو وصف بالناجح

كان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يعلم جيدا أنه سيهبط في واشنطن إلى داخل عاصفة. فقد أبلغه راصدو الأحوال الجوية باحتمال قدوم عاصفة ثلجية تحيل العاصمة الأميركية إلى مدينة بيضاء ومتعثرة. لكن أحدا من العاملين لديه لم يحذره من صاعقة يمكن أن تصيبه.

وبينما كان في الأجواء، قبل ساعتين من هبوط طائرته في قاعدة سلاح الجو الأميركي “أندروز”، نشرت مقابلة أعطاها باراك أوباما لجيفري غولدبرغ، اتهم فيها نتنياهو بأنه تحديدا يعرقل مفاوضات السلام، وألقى عليه بمسؤولية “البناء العدواني” في المستوطنات وحذر من أنه إذا لم يوافق على اتفاق سلام على أساس حل الدولتين، فإن بانتظار إسرائيل كارثة ديموغرافية وعزلة دولية.
وعندما كان العمال في المطار يفرشون السجادة الحمراء نحو باب الطائرة، أطلع رجال السفارة الإسرائيلية في واشنطن رئيس الحكومة وحاشيته على فحوى المقابلة. وما لم يكونوا يعرفونه في تلك اللحظات هو أن البيت الأبيض نفسه هو من قام بتوزيع المقابلة كاملة عبر البريد الألكتروني الرسمي على قائمة تحوي مئات المراسلين الذين يغطون نشاطات الإدارة الأميركية في واشنطن، خشية أن لا ينتبه البعض. ولكن أيضا ومن دون معرفة أن الرئيس أوباما يقف بحزم خلف كل كلمة قالها، فإن نشر المقابلة أحدث صدمة في حاشية نتنياهو.
وفور أن أطفأت الطائرة محركاتها، وقف رئيس الحكومة أمام الميكرفونات، مفاجئا المراسلين الذين يرافقونه. فقد تحدث للصحافة قبل إقلاع الطائرة من مطار اللد ونادرا ما يفعل ذلك بعد هبوط الطائرة. وقد شذ نتنياهو عن عادته كي يرد بغضب مكبوت على الرئيس أوباما. وقال: “يتبين أن التانغو في الشرق الأوسط يحتاج إلى ثلاثة، حاليا يوجد اثنان: الولايات المتحدة وإسرائيل. وآمل أن ينضم الفلسطينيون أيضا”.
وبعيدا عن الميكروفونات، كان رد فعل رجال رئيس الحكومة أشد أضعافا مضاعفة. وقال أحدهم: “هل هذا هو الاستقبال الذي يعدونه لضيف، هو زعيم جولة حليفة؟ هل هكذا يستقبلون صديقا؟” وعدا المهانة حاول رجال حاشية نتنياهو فهم سبب حدوث ما جرى فعلا: ففي نظرهم يعتبر أبو مازن الشخص الرافض، وكانوا على ثقة بأن الإدارة الأميركية تشاركهم رأيهم هذا –فقط قبل بضعة أسابيع فشل اللقاء بين كيري وأبو مازن في باريس فشلا ذريعا حيث عرض الفلسطينيون مطالب جديدة. وقال أحد أفراد حاشية نتنياهو: “كيري يعرف جيدا أن أبو مازن صلب مواقفه. وقد أبلغ نتنياهو بذلك. ما الذي جرى الآن للرئيس؟ لماذا هذا الهجوم؟”

على خشبة التزلج
وما لم يكن رئيس الحكومة يعلمه أنه في الأسابيع الأخيرة دار جدال بين رجال البيت الأبيض ومستشاري كيري. وقد ضغطوا في البيت الأبيض على وزير الخارجية كيري من أجل أن يعرض على الطرفين الخطة الأميركية فورا، وذلك كي يتأكدوا مرة واحدة وإلى الأبد من الذي يقبلها ومن الذي يرفضها. وفي محيط أوباما توصلوا إلى استنتاج بأن نتنياهو هو من يخادع الرئيس وقرروا الإقدام على فعل يراد منه تمزيق القناع عن وجهه.

في ولايته الأولى، وفور تسلمه مهمات منصبه، قام أوباما بتعيين جورج ميتشيل كمبعوث خاص له من أجل تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وبعد حوالي عام ونصف عام رفع ميتشيل يديه معلنا استسلامه وقدم استقالته. كما أن أوباما نفسه شعر باليأس من احتمال حدوث ذلك، لكن وزير الخارجية جون كيري تولى المنصب وآمن أن بوسعه فعل ذلك. وقد منحه أوباما ضوءا أخضر ودعما رئاسيا. وحينها قال لكيري بضحكة ممزوجة بالسخرية: “نادني عندما يتوفر ما يستحق التوقيع عليه”.

وعندما بدأ كيري جولاته المكوكية، قرروا في البيت الأبيض منح رئيس الحكومة فرصة أخرى، رغم الشكوك تجاه نتنياهو. وقد فضلوا تصديق تصريحاته القائلة بأنه فعلا ينوي الإقدام على خطوات مؤلمة من أجل تحقيق سلام تاريخي. ولفترة معينة صدقوا أنه من داخل الجسد الرفضي لرئيس الحكومة تنمو روح أكثر تصالحية ومن الجائز أنه مر فعلا بتغيير جذري يقربه من السلام.

ومؤخرا قرر أوباما وضع حد للمماطلة وأيضا للثرثرة. وقال لمستشاريه: “إذا كان هناك استعداد لدى الطرفين، فعليهما الإعلان عن قبولهما الخطة. نحن لا نريد أن نفرض عليهم ولا يمكننا أن نرغب أكثر منهم”. طيري طلب وقتا إضافيا. وقد آمن أنه سيفلح في التجسير على مواقف الطرفين وجعل من ذلك مهمة حياته. ولكن في الأسابيع الأخيرة تبدل التفاؤل برياح عكرة من التشاؤم. وقال مصدر مقرب من أوباما، له ضلع بالمفاوضات “أننا فحصنا خطوات رئيس الحكومة يوما بعد يوم، ورأينا أنه لا يقوم بأي عمل تمهيدي: فهو لا يعد الرأي العام في إسرائيل استعدادا لخطوة تاريخية، ولا يمهد الأرضية السياسية لتقبل الاتفاق. وهو عمليا يتحدث بلسانين”. وعندما توصل رجال الرئيس إلى استنتاج بأن فرص تحقيق الاتفاق ليست كبيرة، أرادوا وضع الأمر أمام الاختبار هنا والآن. والمقابلة التي أعطاها أوباما عشية وصول نتنياهو كانت خطوة مدروسة.

وقبيل وصول نتنياهو إلى واشنطن، في إطار الاستعدادات للقاء، قرر الرئيس أن الوقت حان لممارسة الضغط. وكانت إحدى أدوات الضغط قول الأمور التي يفكر بها بشكل علني. وعندما أعطى المقابلة لغولدبرغ، يوم الخميس الفائت، لم يكن يخطر بباله نوع المفاجأة التي يعدها له فلاديمير بوتين.

في المقابلة التي نشرت، ليس بطريق الصدفة، فقط يوم الأحد هذا الأسبوع، قبل ساعات معدودة من وصول نتنياهو إلى واشنطن، لم يقل شيئا لم يسمعونه منه في الماضي. بل على العكس، فقط قبل شهور معدودة قال أمورا أشد من هذه عن نتنياهو: وقد اتهمه بتحويل إسرائيل إلى دولة تفرقة عنصرية وزعم أنه بذلك يعرض للخطر وجود إسرائيل كدولة يهودية. وتم تسريب هذه الأقوال، وحينها أيضا لم يكن الأمر مجرد مصادفة. إذ كان تقديرهم في البيت الأبيض أن هذا جزء فعال في الحري النفسية المعدة لخلق ضغط شعبي وعالمي عموما على نتنياهو.
ويوم الاثنين دخل نتنياهو بخطوات مترددة إلى البيت الأبيض. والمسافة القصيرة بين سيارة الليموزين والمدخل كانت مغطاة بطبقة من الثلج، وأبدى نتنياهو ملاحظة أنه يشعر كأنه يسير على خشبة تزلج. وهو لم يكن يعرف في أي اتجاه سينزلق الحديث مع الرئيس. فقد أعد نفسه لمواجهة كلامية أمام الكاميرات، كما أيضا لحديث يشيع فيه الجانبان انطباعا بأن الأمور تجري كما كانت على الدوام.

نظام عالمي جديد

ولكن الأمور عند أوباما لم تكن تجري كما كانت على الدوام: إذ كان غارقا بكل ما في الكلمة من معنى في الأزمة التي تتطور مع روسيا على خلفية غزو شبه جزيرة القرم. وكان يعلم جيدا، بأن الشكل الذي يعالج فيه هذه الأزمة سوف يحسم مصيره في التاريخ: إذ بوسعه أن يكون الشخص الذي يقرر ما سيكون عليه ميزان القوى العالمي من الآن فصاعدا. وسكان الولايات المتحدة ليسوا قلقين على وجه الخصوص من أن إيران ستغدو قوة عظمى نووية أو من واقع أن الرئيس السوري بشار الاسد يذبح أبناء شعبه، ولكن احتمال أن تعود الحرب الباردة هو احتمال يقلقهم بالتأكيد، فالخوف من روسيا مزروع عميقا في قلب الأمة الأميركية.
وقبل يومين من وصول نتنياهو إلى واشنطن أدار أوباما مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استمرت، وفق بيانات البيت الأبيض، تسعون دقيقة. وفي هذه المكالمة فهم أوباما أن بوتين جاد في نواياه وطموحاته في شبه جزيرة القرم وأنها غير قابلة للكبح. وقال أوباما لوسائل الإعلام بعد محادثته مع بوتين: “إذا انتهكت روسيا سيادة أوكرانيا، فسيكون لذلك ثمن”.

لقد غدا نتنياهو غير ذي شأن في تلك الساعات. فالأزمة مع روسيا كبرت لتغدو صداعا أكبر بكثير من كل الشرق الأوسط برمته. وفرصة التصوير التي توفرت لأوباما مع نتنياهو جرى استغلالها من جانبه لتمرير رسائل لبوتين وليس من أجل مناكفة رئيس الحكومة. وبعد لقاء أوباما – نتنياهو قال أهرون ميلر، الذي سبق وعمل مستشارا لشؤون الشرق الأوسط في الإدارة الأميركية، أن “الوضع الراهن يترك لرئيس الحكومة الإسرائيلية هامشا إضافيا للمناورة”.
وفي لقائه العلني مع نتنياهو غير أوباما النبرة، ولم يغير آراءه. صحيح أنه مشغول بالأزمة مع روسيا لكن ذلك لن يبعده عن الشرق الأوسط، على الأقل وفق ما يقول رجاله. وقال أحد مقربي الرئيس: “الآن، في ضوء الأزمة مع روسيا، هو سيترك المهمة لكيري. وهو سوف يتدخل، من بعيد، من خلف الكواليس، لكن لديه حاليا مشاغل وهموم أخرى”.
والأزمة مع روسيا لها صلة أيضا بالشرق الأوسط. فلروسيا دور هام في محاولات إقناع إيران بالموافقة على إبرام صفقة مع الغرب. ولبوتين أيضا نفوذ قوي في سوريا، وفي ظل أزمة مع الولايات المتحدة والغرب سوف يحاول، وفق تقديرات في البيت الأبيض، أن يتشبث أكثر بالأسد وأن يعينه على المحافظة على حكمه.

ويتحدثون في البيت الأبيض بمفاهيم نظام عالمي جديد، يحاول بوتين أن يفرضه على العالم، ويتهمونه بأنه يخترع الذرائع من أجل تنفيذ مخططاته القديمة للسيطرة على أوكرانيا وشبه جزيرة القرم أولا. ولكن القلق الحقيقي هناك هو لأن “بوتين جن” وهو فعلا ينوي أن “يعيد بناء الاتحاد السوفياتي” هكذا وفق ورقة موقف عرضت أمام مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض. والجنون في هذه الأيام تعبير يلاحق بوتين في أروقة الحكم الأميركية. وقد تم الاقتباس هذا الأسبوع عن وزيرة الخارجية الأميركية سابقا مادلين أولبرايت قولها ان “بوتين يعيش حالة من الأوهام”. وجاءت هذه الأقوال بعد ساعات قليلة من تسريب البيت الأبيض أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قالت لأوباما في مكالمة هاتفية أنها تعتقد أن “بوتين ليس مرتبطا بالواقع ولا يفهم ما يدور حوله”.
وبوتين على مر السنين يؤمن بأن تفكيك الاتحاد السوفياتي كان عملا خاطئا. وتقديرات الغرب تقول انه يريد إعادة إنشاء هذا الاتحاد من جديد، بالقوة العسكرية التي سيستخدمها ليس فقط في أوكرانيا، وإنما أيضا في دول أخرى في المنطقة. ووفق هذا التقدير فإن أوكرانيا هي الأولى في السلسلة. والمصلحة الأميركية حاليا تتمثل في إظهار بوتين كحاكم وحشي وكشخص غير متزن.

وفي هذه الأثناء تحاول الولايات المتحدة بناء ردها العملي على التطورات. وفي إسرائيل ودول إضافية يفسرون رد فعل أوباما على أنه تصرف زعيم ضعيف ويستذكرون أن أوباما وضع خطوط حمراء لسوريا أيضا لكنه في نهاية المطاف لم يعمل ضدها عسكريا. وفي البيت الأبيض يرون في ذلك تكتيكا صائبا ويزعمون أنه تحديدا بسبب أن الأسد خاف من أن يقوم أوباما بشن هجوم، تراجع ووافق على تسليم السلاح الكيماوي الذي يملكه.
لقد قال الرئيس ثيودور روزفلت في كل ما يتعلق بالسياسة الخارجية، “تحدث بنعومة واحمل عصا بيدك. فقط هكذا يمكنك أن تصل بعيدا”. هذا هو شعار أوباما، الذي يؤمن أساسا أنه أمر في فترة رئاسته بتنفيذ عمليات عسكرية أكثر بكثير مما تخيل في قرارة نفسه أنه سوف يفعل. وهو يؤمن بأن الزعامة القوية هي تلك التي تظهر كبحا لاستخدام القوة العسكرية ويستخدم القوة فقط كوسيلة ردع.

وأوباما هو بالضبط النقيض التام لبوش، الذي آمن أن بالوسع نشر الديموقراطية بقوة السلاح. وقال مسؤول كبير في الحزب الديموقراطي: “ما الذي تنتظرونه من أوباما، أن يأمر بقصف موسكو؟ هل هناك من يظن أن عليه إرسال فريق أسود البحر لتفجير قصر الكرملين؟ إنه يريد أن يمنع حدوث الشر”. وأوروبا والعالم بأسره يتطلعان لرؤية أي نوع من الزعامة سيعرض أوباما. وهل سيرسل قوات عسكرية من أجل تعزيز تواجد قواته في البحر الأسود؟ هل سيقوم بتكثيف القواعد الأميركية في أوروبا، الأمر الذي سيكلف أموالا طائلة سيدفعها دافع الضرائب الأميركي الذي ضجر من الحروب خلف البحار؟ وهل سيقر في الكونغرس ميزانيات إضافية للناتو من أجل تعزيز قدرات هذا الحلف العسكرية؟

عمل كيري

إن الدول الأوروبية تضغط على أوباما من أجل العمل بسرعة لفرض عقوبات اقتصادية على روسيا ومن أجل فرض العزلة الدولية عليها. ولكن هذه الدول الأوروبية نفسها ليست مستعدة لشد الحبل أكثر من اللازم، لأن معظمها متعلق أيضا بالغاز الطبيعي الذي يأتيها من روسيا. ومن جهة ثانية فإن أوروبا تعرف أنه إذا لم يتم كبح جماح بوتين، فإن البورصات في عواصمها سوف تنهار كما أن القارة الأوروبية التي ترمم نفسها سوف تنهار اقتصاديا. وفي هذه المرحلة أعلنت الولايات المتحدة أنها سوف تدفع لأوكرانيا مليار دولار لمساعدتها في تسليح جيشها لمواجهة التهديد الروسي. وجاء الرد الروسي على شكل تجربة لصاروخ عابر للقارات. وحاليا فإن واشنطن وموسكو تتواجدان على مسار تصادمي، وكل كلمة لا حاجة لها أو كل خطوة غير مدروسة يمكنها أن تقود إلى تدهور للوضع.
وقد عمل البيت الأبيض على مدار الساعة طوال هذا الأسبوع من أجل الحيلولة دون نشوء وضع اندلاع نيران عالمي، سياسيا أو عسكريا، على خلفية ما يجري من أحداث في أوكرانيا. وبالتوازي يصارع الحزب الديموقراطي، وهو حزب الرئيس، من أجل صد الانتقادات التي تأتي من جانب الجمهوريين. إذ قال هذا الأسبوع السيناتور جون ماكين ان “السياسة الخارجية عديمة المسؤولية من جانب الرئيس قادت جزئيا إلى الأحداث في أوكرانيا. إن ما جرى هناك هو امتداد مباشر لما جرى في الشرق الأوسط”.

وإلى داخل هذه الدوامة دخل نتنياهو. وهكذا حدث أنه في اللقاء وأمام الكاميرات تغيرت النبرة. أوباما لم يقل لنتنياهو في وجهه ما قاله عنه في المقابلة مع “بلومبرغ”، أيضا لأنه ظن أنه ليس من اللطافة بمكان إهانة الضيف، وأيضا لأنه بات حاليا بحاجة إلى هدوء في هذه الجبهة. وإزاء الأزمة مع روسيا، يشعر بأنه ليس مضطرا الآن للانشغال بنتنياهو ورفضيته. فهذا العمل يمكن تركه في هذه الأثناء لوزير خارجيته جون كيري.

وهذا بالتأكيد لا يعني أنه سوف لن يمارس الضغط عليه مستقبلا، ولكن الآن، وبينما الأزمة الأوروبية في ذروتها، فإن نتنياهو كسب مزيدا من الوقت. على الأقل في الوقت الراهن.

 

السابق
قاووق : لن تكون حكومة مصلحة وطنية إذا تنكرت للمقاومة
التالي
فضل الله: لموقف إسلامي ومسيحي يُحرّم الخطف