أنوثة الرجال العرب

رجلان من أصول عربية: الأول، رضوان المؤدّب، تونسي، 44 عاماً. والثاني لبناني، ألكسندر بوليكفيتش، 32 عاماً. الإثنان لفتا أنظار الوسط الثقافي الفرنسي  مؤخراً، بأنهما قدما عروضاً في الرقص الشرقي. المؤدّب في مهرجان سنوي للرقص في مدينة تولوز، وعنوان رقصته “عندما كان الرجال العرب يرقصون”، وكان لباسه أثناء الرقص بنطلوناً وقميص. فيما بوليكفيتش رقص وحيداً بعرض أسماه “تجوال”، وكان هندامه عبارة عن تنّورة حمراء وحزام عريض من الفضة. 


ما قاله الراقصان عن فنهما هذا لا يقل جِدّة عن رقصتهما. بوليكفيتش: “تعلمت الرقص الشرقي وأنا أراقب النساء في محيطي، قبل أن أتعلمه في فرنسا، وأصبح محترفاً. اليوم الرقص بالنسبة إلي حاجة وضرورة. الرقص الشرقي سمح لي بالتعبير عن أنوثتي بعفوية ومن دون تحفظ، وذلك في منطقة يتزايد فيها الحطّ من الرقص، حيث يُعتبر نجساً وحراماً ومعادياً للدين”. أما المؤدّب فيتكلم عن الرقص الشرقي بحنين، إذ يقول: “إنها رقصتي الأولى… بل هي أول رقصة لكل عربي. الأفلام المصرية في الأربعينات والستينات من القرن الماضي، تلك المرحلة الذهبية من الإبداع العربي…. شهدنا فيها أيضاً رقصاَ شرقياً، من دون إدانات ولا تحريم”. 

والإثنان ينظران إلى الرقص الشرقي بغير المسْقبات الجاهزة التي تلحقه. الرجلان غرفا من البئر الأثنوي واحدة من تجلياته. لكنهما أيضا لا ينسخان التجربة الأنثوية الراقصة هذه بحذافيرها، فلا يأخذان منها أدوار الإغواء الجنسي أو والإيروتيكية الشهوانية. إنما يجددان النظر الى هذا الرقص بإطلاق حرية أجسادهم اعتمادا على دعامة أساسية هي منطقة الحوض في الجسم. يقول مؤدّب بهذا الصدد: “طفح الكيل من إخضاع العروض الفنية لمنطق الربح التجاري، طفح الكَيل من تلك النظرة الفولكلورية التي يلقيها الغرب على الرقص الشرقي. أريد أن أتسامى بالرقص الشرقي، أريد أن أنزع منه صفة القداسة بنقله إلى رجال عرب، أو فرنسيين لا يهمّ…”.


والأكثر أهمية مما قاله الإثنان، إعتقادهما بأن الثورات العربية هي التي أطلقت طاقاتهما الفنية هذه. بل أن يعرضا رقصاً شرقياً في مهرجانات كبيرة هو بالنسبة إليهما فعل تمرّد سياسي من الدرجة الأولى، مرافق لهذه الثورات. مؤدّب مرة أخرى: “الإنتقال من أنظمة ديكتاتورية الى الديموقراطيات ينال من الجسد، من الفكر، من الفن. لطالما أخفى الرجال العرب أنوثتهم. واليوم يبدو ان الجميع يخشى أن يتحرك… أن يعبر عن نفسه. من هنا أتت رغبتي بأن أحرك ذاك حوضي النابض”.

إذن، نحن أمام واحدة من الحالات العربية النادرة عن بداية استيلاء الرجال على الذخيرة الأنثوية الرابضة في كل واحد منهم. وهذا السطو تأخر كثيراً عند العرب، كما في مجالات أخرى عديدة. إذ أن النساء العربيات، مثلهن مثل كل نساء العالم، خرجن منذ عقود من المكان المقفل الذي قعدن فيه، واستولى عدد منهن، مرتفع نسبياً، على أدوار كانت محض رجالية. من أجل إنجاح هذا الخروج، كان عليهن، حتماً، أن يتشبهن بسلوكيات وصفات وملِكات الرجال؛ من ارتداء البنطلون وحتى قيادة الطائرة أو الوزارة، كان أمامهن النموذج الذي سبقهن: فكان تشبههن بالرجال والاستحواذ على صفاتهم الأساسية، المطلوبة، من شجاعة وقرار ومسؤولية ومواجهة الخ….

تأخر الرجال العرب في التفاعل مع هذا التغيير الذي طرأ على النساء. بل إنهم فعلوا العكس: صاروا يبالغون بالذكورة ويحصرونها بالجانب الجنسي، المتوهمة قدراته في أفضل الأحوال. وهي مبالغة مثل الحصن الأخير، الخندق الأخير، لن يكون خلفه دفاعات أخرى، إنما فراغ… لو بقوا على مكابرتهم. 


كان يجب أن تأتي الثورات بعجْرها وبجْرها: من جهة إنكشاف المجتمعات على إسلامية سياسية، شغلها الشاغل إعادة تثبيت الذكورة في حصونها الأخيرة؛ تتساوي معها، وتصارعها في آن عسكرية نظامية، ترى في أبطالها الجُدد “دكوراً”، بدلاً من “ذكور”، تأكيدا على المزيد من الذكورة. لكن من جهة أخرى، إنطلاق طاقات ذهنية وفنية، هي غالبا على هامش الثورات، أو بعيدة من ميادينها الدامية ومراحلها الانتقالية المشوشة؛ واحدة، أساسية منها، تلك التي تتعلق بالعلاقة بين الجنسين. والرقص في حالتنا هذه وجه من أوجهها. من يتذكر حفلات الرقص المصرية ضد مقرات الإخوان المسلمين وشرائط سما المصرية الراقصة الكارهة لهم؟ كانت تعبيرات جنينية ربما لن يكتب لها الدوام في المشهد المركزي لحكم العسكر القادم. بل قد تجدها حية في أطراف هذا المشهد، حيث شيء من الحرية، من الفن الأصيل، من التفاعل الحيّ مع ما باتت عليه النساء العرب الآن، وبصرف النظر عن الصعودين، الإسلامي والعسكري. 

بوليكفيتش ومؤدّب يطلقان برقصها الشرقي أولى شرارات الأندروجينية الذكرية العربية: ذاك الخليط من الصفات الأنثوية والذكرية الموجودة في كل كائن بشري. وهم بذلك يكمّلون المسار المتعرج والمتخبط للأندروجينية الأنثوية العربية، وقد يخلق تتفاعل الاندروجنيتان، إنسانا عربيا جديداً، إبن نفسه وحريته… بعد قرن ربما من الأخذ والردّ.  

 

 

السابق
اقفال شارع المصارف اليوم بسبب انعقاد جلسة مجلس النواب
التالي
الطيران الحربي الاسرائيلي يحلق باجواء الجنوب وينفذ غارات وهمية