أنا من ثراكِ..

الهرمل

إلى الهرمل

جلستُ على المقعد الوثير أجرب «كندرة» جلدية ثم علا صوتي بقهقهة لفتت الأنظار من حولي.
اقتربت مني أليسا، أختي، المغتربة في بلاد الإنكليز، وفي عينيها أكثر من استغراب. قلت وأنا أحدث نفسي «والله يا سعدى نزلت عن الجحشة بجرود الهرمل وجئت إلى شارع أوكسفورد في لندن تتسوقين من محل شهير للأحذية».
عادت صورة الحذاء الأخير الذي ابتاعه لي أبي في الهرمل. كان من النايلون. أبيض، تزين كعبه ثماني كرات. اشتراه في يوم ماطر عدت في نهايته إلى البيت مبللة القدمين.
أثار حذائي الجديد غيرة شقيقيّ فوعدهما والدي بمثله في أقرب فرصة.
فرحةُ، انتعلت الحذاء متعجلة المغادرة إلى مدرستي الرسمية، وكنت في الصف الثالث الابتدائي. غرقت قدماي الصغيرتان في حفرة المياه. كان شقيقاي قد ثقبا ليلاً كعب حذائي.
الصف الثالث نفسه شهد نظاراتي الصفراء البلاستيكية التي اشتراها لي أهلي عوضاً عن أخرى طبيّة وصفها الطبيب في حمص لحماية عينيّ من «الرمد الربيعي». لم يقل أبي أنه لم يكن يملك ثمن النظارة الموصوفة. هو ببساطة لم «يكسر بخاطري». ابتاع لي عن عربة حمصية ما اعتبرته «عيوناتي» الطبية. جنان وميساء، زميلتاي، الأولى ابنة موظف في الدولة، والثانية ابنة معلم الجغرافيا، سخرتا مني وأنا أصرّ على ارتدائها لضرورتها العلاجية.
على المقعد الوثير في المحل الإنكليزي الفاخر، مرّ في خيالي ترحالنا على «التراكتور» إلى جرد مرجحين. كانت أمي توقظنا مع صلاة الفجر لنجدها قد ملأت «التريلا» (وهي صندوق التراكتور) بأمتعتنا وبعض الفرش وحصيرة من القش، ومؤن ضرورية لصيف بعيد عن دكاكين الهرمل. كان يلزمنا أربع ساعات لنقطع الطرقات الترابية والصخرية إلى أرضنا البعيدة. كانت أمي تربطنا بحوافي «التريلا» الواحد تلو الآخر لكي لا نسقط على المنعطفات الجبلية حين يعلو «التراكتور» ويهبط فنعلو معه وتعلو صرخاتنا الفرحة.
كنا أولاد مُزارع من أولئك الذين علمت في ما بعد أنهم يسمّونه «مزارعي المخدرات». في سنوات لاحقة بعيدة، عرفت أن نبتة الحشيشة التي كنت أرويها على مدى ثلاثة أشهر كل عام، مصنفة من ضمنها.
أنا مزارعة المخدرات التي تكلفت دولتي إرسال طائرات «الهوليكوبتر» في رحلة طويلة إلى جرودنا لترمينا بمناشير تحذرنا من زراعة الحشيشة. عبثاً لحقت بالطائرة يومها، فرحة بتلك الآلة التي كنت أراها للمرّة الأولى.
يومها، لم أكن أعرف أن تلك البقعة التي خرجت بها إلى الدنيا، على يد «الفيترونية»، أي الداية التي سحبتني من بطن أمي، تنتمي إلى دولة لها رئيس وحكومة ووزراء ونواب ومؤسسات.
غرّر بي بومدين عندما عرفت طريقي إلى «رابطة شباب الهرمل»، من بوابة الكرة الطائرة، وعندما نشر لي نصاً عن سهى بشارة في جريدة «النداء». يومها تعرفت إلى الجريدة ورف قلبي لحلمي الأول، الصحافة.
عندما سمعت اسمي عبر الإذاعة بين الناجحين في شهادة الثانوية، خمنّت أن عيني أمي لمعتا بدموع الفرح. لاحقاً، علمت أن تلك المرأة التي لم تتعلم «فك الحرف» كانت تبكي عجزها. تندب حلمي، هي التي أنقذتني من الأميّة في اللحظة التي اكتشفت فيها أني مكتومة القيد، وأنا في الثالثة من عمري.
يومها قصدت منزل عمي، وسألته أن يعيرني إخراج قيد ابنته «ظريفة» التي تكبرني بسنتين. عمي لم يرسل بناته إلى المدرسة. سيناديني زملاء الإبتدائي باسم «ظريفة» إلى أن تربح أمي الدعوى القضائية، ويعود لي اسمي، «سعدى».
قالت اليسا، أختي المغتربة في انكلترا اليوم، بعدما «نبت ريشي» في بيروت، أنها ستتكفل بمساعدتي لأدرس الصحافة. كانت أليسا تعمل ممرضة في الجيش براتب يكفي لاستئجار سريرين في غرفة مشتركة مع أخريات.
تركت الهرمل وفيها من كان يوازيني، أو يفوقني، اجتهاداً وقدرة على دخول الجامعة. كثر من بينهم لم يكن لديهم قريب يساعدهم في العاصمة البعيدة، حرموا من إكمال تعليمهم. استمروا في العيش هناك حيث تعجز معظم العائلات عن إرسال أبنائها حتى إلى كليات الجامعة اللبنانية في زحلة.
لاحقاً، سأعرف كم أشبه بنات عرسال وجرودها. سأرى يديّ أمي المتشققتين في يدي نساء عكار… سأروي في تحقيقاتي حكايات أقراني في طرابلس وجرود كسروان وجبيل. سأجد شبيهاتي في مارون الراس وعيترون يشككن شتول التبغ سعياً وراء لقمة عيش مرّة، وفرصة تعليم صعبة المنال. سأتناول بطاطا مقلية، لن أنسى طعمها، عند زينب، ابنة حي الطمليس في بيروت، وسأرى في منزلها الفقير زوايا بيتي في الهرمل.
بعد اثنين وعشرين عاماً على نزوحي عنكِ، اشعر أني مَدينة لك. مدينة لتلك «الخلطة» السحرية التي جعلتني أصمد وأجد بداية طريقي. مدينة لحضنك الذي داوى، ويداوي، تعثري في الدروب الصعبة… لكل ما تعلمته منك وفيك وعبرك وأنت تنأين بنفسك عن كل المواجهات الطائفية والمذهبية التي عصفت ببلاد الحرب الأهلية. مدينة لوجهي الذي استدار فقط، مثلك تماماً، نحو الجبهة عند حدود فلسطين.
اليوم، وأنت ضحية التفجيرات، وأنت تخرجين من ظلمة الإهمال والمجاهل إلى شهرة الخنساء الثكلى، أشعر برغبة في فرد ذراعي لأحضنك، لأردّ عنك الانتحاريين الذين وصلوا إليك قبل الدولة وقواها السياسية.
أشعر برغبة أن تلمس يداي قلب أهلي، أهلي كلهم الذين يتربص بهم الموت عند كل منعطف، وفي كل ساحة.
مَدينة أنا للعاصي، وأنت هبته. مدينة له وهو يعلّم أطرافي الطرية مواجهة التيارات الباردة، وجسدي الصغير فن العوم. أفرد ذراعيّ من بعيد لأدرك كم أنا ضعيفة وعاجزة أمامك.. أمامه.. أمامهم، ولأعتذر، إذ أضحى الاعتذار كل ما أملك وأستطيع.

السابق
قاووق: تشكيل حكومة المصلحة الوطنية يفرض استنفارا وطنيا
التالي
الوليد بن طلال «أغنى سعودي» بـ 31 مليار دولار أميركي!