كيف بدأ الإرهاب من العراق (1)

أعلنت وزارة الداخلية العراقية منذ أيام أنّ حصيلة ضحايا الإرهاب خلال شهر كانون الثاني الجاري بلغت 2800 شخصا منهم ألف قتيل و1800 جريح. وكان العام 2013 الأكثر دموية في العراق منذ العام 2008، إذ سقط ثمانية آلاف قتيل، بحسب الأرقام الرسمية المعلنة.

لا يمكن أن نحلل دوافع وظروف واهداف الارهاب الذي استشرى في العراق بعد الاطاحة بنظام صدام في التاسع من شهر نيسان 2003 بمعزل عما حدث في 11 أيلول 2001 وتدمير مركز التجارة العالمي في الولايات المتحدة الاميركية. وهو ما جعل كرة الثلج الارهابية تكبر عاما بعد عام رغم الجهود الدوليّة الحثيثة غير المجدية حتى الآن.
ولما كان تنظيم القاعدة بزعامة السعودي “اسامة بن لادن” قد مثّل العنوان الأبرز للعنف والارهاب في العراق خلال الاعوام التي تلت سقوط نظام صدّام، فإنّ تنظيمات اخرى جهاديّة ارهابيّة نمت وترعرعت واستقت من ظروف عراقية خاصة وموضوعيّة مشابهة لظروف الفوضى والاضطراب التي سبقت ثم تلت احتلال حلف “الناتو” أفغانستان.
وكما قال الباحث زهير المخّ في كتابه المشترك مع كلّ من الدكتور احمد ابو مطر والدكتور خالص جلبي، بعنوان: “الاسلام والعنف.. الواقع وتحدي الارهاب، وأزمة البناء التعليمي”، فإنّ “الارهاب جاء الى العراق مسلحا بعموميات لا يصحّ البتة وصفها بالبرنامج او حتى مقدمات برنامج في مواجهة الاحتلال، وبدا باكرا انه يؤمن بأسلوب انتزاع الادوار والمواقع عبر تحويل العراق الى حقول للقتل اكثر مما يؤمن بالتنافس السياسي، وبالتالي اوجدت ممارساته الاولى في الذبح المجاني بأنه قادر ان يخيف اكثر مما هو قادر ان يقنع”.

فالمحيط العربي وجد نفسه بعد انهاء حكم الدكتاتور في العراق تحت عبء استحقاقات غير مألوفة لديه، ونعني هنا التجربة السياسية الجديدة في العراق، التي بدت وكأنها أمراً شاذاً على ذلك المحيط.
فالمعروف  منذ زمن بعيد هو وجود أنظمة سياسية تقليدية محافظة في الدول العربيّة تقوم على أساس مبدأ توارث السلطة، ملكية واميرية او حتى جمهورية. ولم يكن خيار التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات الحقيقية العامة خياراً مقبولاً لدى النخب السياسية الحاكمة في العالم العربي. لذلك فإنّ بروز تجربة ديمقراطية حقيقية، في قلبه وعمقه الجغرافي، يعني فيما يعنيه تهديداً واقعياً لتلك النظم التقليدية، ان لم يكن آنياً فعلى الصعيد المستقبلي. وحينما تظهر مثل تلك التجربة في العراق فإن عوامل القلق الخوف لدى هذه السلطات الدكتاتورية الحاكمه تجعلها تبذل الغالي والنفيس في سبيل وأد تلك التجربه الحضاريّة في المهد.
من هنا بدأ ضخّ الاموال والاسلحة يأخذ طريقه الى العراق بطرق ووسائل عديدة وعبر قنوات مختلفة، وباتت حملات تجنيد الارهابيين الانتحاريين في دول عربية متعددة امراً مألوفاً يتحدث به الشارع بدون كثير من الحرج والتردد.

وثقافة “الجهاد والاستشهاد” في العراق باتت توجه من على منابر الجوامع والمساجد وحلقات الوعظ والارشاد الديني ويتبناها وعّاظ السلاطين وكبريات المؤسسات الدينية القريبة من بعض دوائر ومراكز القرار في هذه العاصمة العربية او تلك. واجهزة المخابرات اضطلعت بدور غير قليل في هذا الشأن. وكذلك المؤسسات والشخصيات الدينية عبر عمليات التثقيف وغسل الادمغة واصدار الفتاوى التحريضية والتكفيرية، اضافة الى وسائل الاعلام العربية المختلفة التي اصبح البعض منها يتحدث باسم ما يسمى “المقاومة” في العراق عبر تسويقه لخطاب الجماعات الارهابية، بعثية كانت، ام تكفيرية، والترويج لرموزها وشخوصها، وتشويه صورة التحولات السياسية في العراق والتقليل من اهميتها ودلالاتها.

ولم يكن عسيرا على أي متابع ان يجمع حصيلة كبيرة لاسماء جماعات رفعت راية المقاومة والجهاد ضد المحتل لترتكب ابشع الجرائم بحق الناس الابرياء تحت تلك اللافتة العريضة. وللأسف فإنّ مشاهد القتل والتدمير بقيت تتكرر حتى الآن. واذا كان ايقاعها قد انخفض في فترة من الزمن، فإنه عاد الى الارتفاع مجددا، وقد بدا ذلك واضحا خلال الشهور القليلة الماضية. فبينما كانت الجماعات الارهابية تحتاج الى فترة شهر او اكثر للتخطيط وتنفيذ عمليات ارهابية واسعة، باتت تستهدف مناطق ومدنا عديدة في وقت واحد كل اسبوع او اقل من اسبوع في بعض الاحيان. ولا ترتبط فاعلية وقوة الجماعات الارهابية بما تحظى به من دعم واسناد سياسي وعسكري ومالي واستخباراتي من اطراف اقليمية ودولية عديدة فحسب. بل يرتبط ايضا بطبيعة الازمة ـ او الازمات السياسية ـ في البلاد، وضعف اداء المنظومة العسكرية والامنية العراقية، واختراقها من قبل الجماعات الارهابية، وعدم تصفيتها من عناصر حزب البعث المنحل والاجهزة القمعية للنظام السابق.

ولخداع وتضليل اكبر عدد من الناس، يلاحظ ان اسماء معظم الجماعات الارهابية، التي تصف نفسها بـ”المقاومة” اما مستمدة ومستقاة من التراث والتاريخ الاسلاميين، او انها تشتمل على صبغة اسلامية، ما يعني انها ذات اتجاه سلفي متشدد، ويمكن القول بعبارة اخرى: “اتجاه تكفيريط، واما مستمدة ومستقاة من تراث حزب البعث الصدامي، ونظامه الذي خلّف ارثا سياسيا وثقافيا وفكريا سيئا، نتاجا وحصيلة لخمسة وثلاثين عاما من الظلم والتسلط والاستبداد. ومن الامثلة على النوع الاول: جيش المجاهدين، وجيش الصحابة، وكتائب الفاروق، وجيش محمد، وفيلق عمر، وأنصار الاسلام. ومن الامثلة على النوع الثاني: مجاهدو صدام، وفدائيو صدام، وكتائب ثورة العشرين، وقيادة قوات المقاومة والتحرير في العراق، وحزب العودة، والجبهة الوطنية لتحرير العراق.

السابق
السفير: نصرالله سيشيد بالدور الكبير للجيش
التالي
بري أرجأ موعد سفره الى صباح الأحد لمتابعة مساعي التأليف