أنا و “فان رقم4 والإنتحاري”

ثلاثون دقيقة من “المبنى الجامعي” إلى “مُستشفى الجَامعة”
“فان رقم 4” على “خط زلازل”

وصل الانتحاريون أخيراً إلى قطاع النقل العام. نقلوا أرض المعركة إلى وسيلة نقل شعبية. ركبوا “المقاعد الأمامية” وصاروا خبراً أوّل، لكّنهم لم يصلوا إلى وجهتهم النهائية بعد. ليس “فان” الشويفات حافلةَ “فولفوغراد” الروسيّة. ولكنّ الانتحاريّ واحدٌ هنا وهناك بوجوهٍ متعدّدة وأسماء كثيرة غير حُسنى!
لم يكن العابرون مِن الضاحية الجنوبية وإليها بحاجة إلى أسباب إضافية ليرتفع لديهم منسوب القلق اليومي من تفجيرات محتملة في أيّ لحظة. ولكنّ الانتحاريّ هذه المرة جاء ليقول لهؤلاء إنه صار بينهم وإنه راكب “فان” مثلهم. صار كل راكِب أو راكبة مشروع انتحاري أو انتحارية. ما بعد “انتحاري الشويفات” ليس كما قبله!

وما كان يجري تداوله في الأشهر الماضية، على سبيل النكتة، لم يعد كذلك. الورقة التي وضعها أحد السائقين على الزجاج الأمامي وتدعو الركّاب إلى خلع “الجاكيت” هي ليست مزحة بقدر ما هي إعلان صريح عن الخوف من حزامٍ ناسفٍ آخر قد يكون أكثر إيلاماً في المرّة المقبلة!

أمام المدخل الغربي لمجمّع كليّات “الجامعة اللبنانية” تتوقّف عشرات الباصات العمومية (ميني باص) لنقل طالبات وطلاّب يتوزعون إلى مناطق مختلفة معظمها تقع ضمن نطاق الضاحية وبيروت. حركة الطلاب الخارجين والداخلين لا تهدأ طيلة النهار. كذلك حركة الباصات الصغيرة في الخارج. المقاهي القريبة، التي ازدهرت بروّادها في وقت سابق، تبدو الآن شبه خالية. لا يسمح الزمن الحالي بمزيد من التّرَف. وحال المقاهي هناك ليست استثناء عن عموم مقاهي الضاحية وعدد كبير من مقاهي ومطاعم العاصمة أيضاً.

انشقاق

تُنقِّلُ الفتاة الجامعيّة خطواتها بحركة رشيقة وسريعة لتتمكّن من اللحاق بالباص الصغير قبل انطلاقه. يمتلئ الفان بركّاب معظمهم من الطلاب الجامعيين ممّن يعتمدون “الفان” وسيلة نقل رئيسية. “نحن طلاب أولاً وأخيراً ويهمّنا توفير المصروف قدر الإمكان. لن أستبدل الفان بأي وسيلة نقل أخرى مهما كانت الظروف الأمنية”، تقول مها طالبة الحقوق.

ينادي المسؤول في الموقف على سائق آخر ليحجز مكانه المفترض “بالدّور” في آلية عمل يومية يحفظها “الشوفوريّة”. تنطلق “الرحلة” عبر “خط رقم 4” إلى الحمرا قبل أن تعود إياباً إلى الضاحية مرة أخرى عبر الطريق ذاتها، ولكن بركّاب جدد. وما بين “حي الجامعة” (المريجة) و”المركز الطبي الجامعة الأميركية في بيروت” بضعة كيلومترات مليئة بكثير من الأماكن والناس والأحاديث.. و”المطبّات” أيضاً!
ولـ”خط رقم 4″ حكاية تعود إلى يوم قرّر النقيب الحالي لسائقي الفانات العمومية (ميني باص) عبد الله حمادة “الانشقاق” عن “الشركة اللبنانية للمواصلات” بهدف تأسيس نقابة ترعى هذا القطاع الحيوي للمواصلات العامة.

الخط الذي بدأ بـ7 باصات فقط، واعتبره البعض “انقلاباً” على “شركة الصاوي زنتوت” وصل اليوم إلى 220 باصاً صغيراً موزعة على ثلاثة مواقف: “الملاك” و”الجامعة” و”الكفاءات”.

يؤكد حمادة أن “خط رقم 4″ يخضع مباشرة لـ”سلطة” النقابة. ويعتبر أنه يقدّم نموذجاً يُحتذى به لناحية آلية التنظيم والالتزام بكل الشّروط القانونية. يضيف: “وضعنا مراقبين متخصّصين لضبط حركة خروج الباصات العاملة في خط رقم 4”.

حيطة وحذر

مقابل “نقطة الكفاءات” تماماً سُدّتْ الواجهة الزجاجية لـ”البنك اللبناني الفرنسي” بأكياس رمليّة كتدبير وقائي في مواجهة أي تفجير محتمل بعدما سرت شائعات في الآونة الأخيرة عن ضبط سيارات مفخخة في هذه المنطقة! زحمة السير التي سبّبتها إجراءات أمنية مفاجئة لا تمنع سائق الباص “الشاطر” من الالتفاف على خط السير الأساسي في محاولة منه لاختصار الوقت. يشغّل الراديو ليستمع إلى أخبار إذاعة النُّور ويعلق على خبر تأجيل الإعلان عن حكومة الأمر الواقع: “أصلاً بحكومة وبلا حكومة البلد ماشي بالصدفة”. يكمل حديثه مع الشاب الراكب بجواره ولا ينسى أن يوجّه تحية إلى حسين مشيك (سائق فان الشويفات): “هيدا بطل”!

مع تتالي التفجيرات الانتحارية في الضاحية زادت تدابير الحيطة والحذر في كل مكان. وبالرغم من أن التفجير الأخير وقع داخل باص عمومي، فإن نقيب سائقي الفانات العمومية عبد الله حمادة ينفي أن يكون هناك أوامر بتفتيش الركاب، لأن ذلك يعدّ في رأيه تعدياً على خصوصيات الناس. “أعطينا توجيهاتنا للسائقين بالتدقيق بالأغراض التي يُشتبه بها”. يضيف: “نراهن على وعي المواطنين الذين يقومون أحياناً بالمبادرة والتعاون من دون أن نطلب منهم”.

أما عن “الإقبال” على “خط رقم 4” والفانات العمومية إجمالاً، فيؤكد حمادة أن “النسبة انخفضت منذ بداية التفجيرات، شأنها في ذلك شأن معظم القطاعات في البلد، ومنها قطاع المواصلات، ولكنها تراجعت بنسبة 50 في المئة تقريباً عقب التفجير الأخير”!

في منطقة صفير (نزولاً من السان تيريز إلى جسر صفير فكنيسة مار مخايل في الشياح) يلتقي “خط 4” مع الخط الآتي من خلدة والشويفات (الذي سلكه الانتحاري الأخير) من دون أن يتأثَّر أيّ منهما بالآخر بشكل سلبي.
عند تقاطع كنيسة مار مخايل زحمة سير صارت مع الوقت “عادية” بسبب إجراءات التفتيش المشدّدة للجيش على الجهة الأخرى. الكنيسة إلى اليسار شاهدةٌ على توقيع وثيقة تفاهم “التيار الوطني الحر”- “حزب الله” في 6 شباط 2006!
على طريق صيدا القديمة بين الشياح وعين الرمانة يتابع “سماسرة” تجار السيارات عملهم كالمعتاد، مع فارق أن حركة البيع والشراء تراجعت قليلاً. يقول محمد (أحد تجار السيارات) ممازحاً: “لكن في المقابل، زاد الإقبال على السيارات المسروقة”.

موظفون وعمال وطلاب

ركّاب “الخط رقم 4” هم في الغالب موظّفون في القطاع الخاص، وعمال مصالح، إضافة إلى طلاب جامعيين وعدد من تلامذة المدارس ومواطنين آخرين. يقول حسين الذي يعمل نادلاً في مقهى في الحمرا إنه “لا غنى عن الفان رقم 4، بالرغم من كل شيء”. الانتحاري في رأيه “لم يكن يريد تفجير نفسه في الباص، مع أن الخوف يبقى حالة طبيعية عند الناس”. ولكن لفادي الموظّف في الإذاعة اللبنانية رأياً آخر: “توقفتُ عن الذهاب بالفان منذ انفجار الشويفات وعدتُ لاستعمال سيارتي، بالرغم من أن الـ4 يمر عادة من أمام مدخل الإذاعة”. يضيف: “طلبت من ابني أيضاً أن يذهب إلى الجامعة بالسرفيس، ولو أن ذلك من شأنه أن يزيد الكلفة المادية”!

الباص الذي يسلك طريق رأس النبع وبشارة الخوري مروراً بساحة الشهداء، ومن ثم إلى المحطة الأخيرة عند مفرق “مستشفى الجامعة الأميركية” في الحمرا، يعاود دورته ولكن في الاتجاه المعاكس هذه المرة. يلفح صقيع شباط وجه سائق الـ”فان” فيستعجل الرحيل. يسود صمت رهيب في الداخل لا يخرقه سوى صوت لعبة حربية على جهاز “موبايل” أحد الركّاب سرعان ما يختفي. أما “فان رقم 4” فيواصل سيره على “خط زلازل” يبدأ من دمشق ولا ينتهي في الضاحية!

السابق
“باركليز” يدفع مكافآت بنحو 4 مليارات دولار
التالي
الاعتداء على مواطن في دير قانون