باي باي يا وطن: الموت لم يعد يستفزني

باي باي يا وطن
الموت لم يعد يستفزني، يومياً يسقط ضحايا هنا وهناك، نصحو على انفجار ونمسي على آخر. الموت هو الحقيقة الوحيدة المعروفة حتى الآن، غيره يخضع لوجهات نظر، ويقال من يقتل بجريمة انفجار يتحول إلى شهيد والشهداء إلى الجنة وفق مقاييس كل الفرقاء، هنيئاً للضحايا الذين خسروا حياتهم باكراً، منهم يذهبون مباشرة إلى الجنة ومن يبقى حياً لا يعرف مصيره في الآخرة.

الموت لم يعد يستفزني. تحول البشر إلى أرقام فزيادة مئة أو نقصان مئة لا يقدّم ولا يؤخر. يفتش على أعصابنا ساعات قبل أن نستعيد وتيرة حياتنا. نركض وراء لقمة العيش وتأمين تكاليف الحياة التي ترتفع مع ارتفاع وتيرة العنف.

الموت لم يعد يستفزني، يذكرني الوضع الراهن ببداية ثمانينات القرن الماضي، كان النزاع الأهلي على أشده والسيارات تنفجر هنا وهناك ويسقط ضحايا من هنا وهناك. والجلاد يخدمهم بإرسالهم إلى الجنة. أتى الغزو الإسرائيلي عام 1982 ليشكل فرصة لإعادة توحيد القسم الأكبر من الناس ليقفوا متماسكين ضد الاحتلال، ليقاتلوه من أجل الحياة وليس من أجل الموت.

كانت إسرائيل تهدف إلى إقامة حكم تابع لها في لبنان آنذاك، لكن ظرف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين يختلف عن ظرف العقد التاسع من القرن الماضي. الآن إسرائيل تتفرج بعد أن صار هدفها رؤية الكيان اللبناني يتفسخ، والنسيج الاجتماعي يتحلل، ولا يبدو أن عنصراً سيعيد اللحمة بين القبائل المتصارعة.

ومع ذلك، الموت لم يعد يستفزني، يوم 27 كانون الأول 2013 كنت في طرابلس عندما حدث الانفجار الذي أودى بحياة الوزير السابق محمد شطح وغيره، تلقيت الخبر ببرودة، وأكملت عملي، وبعدها عدت إلى بيروت لأضيف عدداً آخر إلى قائمة الضحايا، ويوم 2 كانون الثاني 2014، كنت في النبطية عندما حصل انفجار الضاحية، أكملت عملي بعد السؤال عن عدد الضحايا.

الموت لم يعد يستفزني، الذي استفزني تلك الوجوه الصفراء التي سارعت للمشاركة في برامج التلفزة مساء الخميس الفائت، تتبارى فيما بينها وممثلو كل فريق يصر على خطابه وتحميل الآخر المسؤولية، ويتابع هجومه. ما يقوله ممثل فريق 8 آذار على أي قناة تلفزيونية لا يختلف مما يقوله ممثل الفريق نفسه على أي قناة أخرى. وما يصرّح به ممثل فريق 14 آذار هو نفسه ما يصرّح به ممثل آخر للفريق نفسه على أي قناة تلفزيونية أخرى. لا أحد من الفريقين اكترث لما قاله مواطنون عاديون اتصلوا بالمحطات، سدّوا أذانهم، وأكملوا خطاباتهم ومواقفهم المتشنجة، حتى مداخلة وزير الداخلية مروان شربل أثارت عندهم السخرية حتماً. كل ممثل لفريق ينظر إلى رأيه أنه الحقيقة المطلقة. كأنهم لم يصلوا إلى درجة يقتنعون معها أنّ الموت هو الحقيقة الوحيدة المطلقة، أنهم غير مستعدّين لسماع الآخر، والمبادرة في الدخول إلى مفاوضات علها تسمح بفترة هدوء وأمن. كلهم ضد الإرهابيين، كلهم مع لبنان، أي لبنان لا أعرف.

الموت لم يعد يستفزني، هم يستفزونني ويعتقدون أن مصالح عشيرتهم وطائفتهم فوق كل اعتبار، وكأنهم يقولون باي باي يا وطن.

السابق
طيران العدو فوق بنت جبيل ومرجعيون
التالي
«لا نريد العيش معاً»