أعرفها جيّداً… طرابلس مدينتي

طرابلس
أعرف كم تراودها فكرة الانقطاع عن الوجود كأن يمحوها أحدهم عن الخريطة ويزرع لافتة على أرضها الجافة: "ترقد هنا بسلام مدينة دمّرها الوطن". أعرف أيضاً أنّ الموت أمنية صعبة لا تبلغها وأنّ الهوان الذي تشعر به لا مثيل له.

أراها في أحزانها كساحات الحرب حين تفرغ من المتقاتلين، مفتوحة على الألم. أراها وأعرف أنّها ليست بحاجة إلى الشفقة ولا الرثاء ولا شعارات التضامن ولا بيانات التنديد الّتي خفتت هي الأخرى.

أراها في وجعها متّكئة على اسفلت العجز وأسمع نحيبها، أسمعه كأنّ صوته يأتي من داخلي وأحسب لكثير من اللّحظات أنّني هي. أعرفها. أعرف شوارعها، أزقّتها، ناسها، باعتها، حرمانها، فقرها، جمالها.

أعرف أسواقها الداخلية التي يكاد سكّان بيوتها أن يجدوا أنفسهم في المنزل المجاور لضيق المساحة. أعرف داءها وأعرف حقدها على كلّ من غرّر بها، على كلّ من شهّر بها وعلى كلّ من مدّ يده ليلوّث طرقها. أعرف المأساة وأعرف شعورها بالوحدة. من قال إنّ المدن بلا إحساس؟

أعرف الطريق الّتي يقطعها الجيش عند احتدام المعارك وأعرف المباني التي يقف على سطوحها القنّاصون وأعرف مدارسها المغلقة وكنائسها المذعورة وجوامعها التي تشعر بالاشمئزاز من كلّ من ألقى خطباً تحريضية في داخلها. أعرف أنّها تحب الحياة، همست لي ذلك مراراً وأنا أرى أوّل بزوغ الشمس على كورنيشها. أعرف هذا الكورنيش الذي يقصده الفقراء أيّام العيد ومحلّ البوظة إلى جانب الطريق.

أعرف كم تراودها فكرة الانقطاع عن الوجود كأن يمحوها أحدهم عن الخريطة ويزرع لافتة على أرضها الجافة: “ترقد هنا بسلام مدينة دمّرها الوطن”. أعرف أيضاً أنّ الموت أمنية صعبة لا تبلغها وأنّ الهوان الذي تشعر به لا مثيل له.

أعرفها، العاصمة الثانية للوطن، وأعرف غيرتها – لتكن غيرة الحسرة – من عاصمة أولى تنعم بحدّ أدنى من الاستقرار. ليست غيرة امرأة قبيحة من أخرى جميلة بل غيرة امرأة آية في الجمال من أخرى غارقة في الزينة والتبرّج. أعرف هذه الحسرة حين تقول لي صديقتي إنّ ابنها سألها إن كانت مدارس بيروت تقفل عندما تقفل مدارس طرابلس لأنّه ليس من العدل أن يتعلّم بعض التلاميذ بينما غيرهم غارق في الخراب.

أعرف أطفالها الذين يعملون في مهن شاقة منذ الصغر بحثاً عن لقمة عيش نظراً لتخلّي ذويهم وعجزهم. أعرفها وأعرف أنّ حكايتها لا تقتصر على جولات عنف بل تعنيف استمرّ على مرّ عقود تحت عنوان الحرمان، تعنيف تحت مرمى النظام السوري وتحت مرمى أبنائها من السياسيين المستغرقين في التخلي.

أعرفها جيّداً: هذه مدينتي.

السابق
صقر تسلم ملف الشكوى التي تقدم بها تلفزيون الجديد ضد الجمارك
التالي
مستشار ميقاتي يشن هجوماً على ريفي ومستشار الأخير يرد